وحديث النفس ، ولا غرابة في ذلك ، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، وهذا تمثيل لكمال القرب ، مع أن الله منزه عن الحلول في مكان وزمان ، فهو قرب علم به وإحاطة بأحواله كلها فكأن ذاته قريبة منه (١).
ومع كمال العلم بالإنسان ، وتمام الإحاطة بأحواله ، ونفاذ قدرته عليه ، وكل به ملكين يكتبان ويحصيان عليه عمله ، إلزاما للحجة ، وقطعا للمعذرة.
فالله أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان اللذان يأخذان عنه ويحصيان عليه ، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات ، والآخر عن شماله يكتب السيئات ، ما يلفظ الإنسان من قول ، ولا يعمل من عمل إلا لديه ملكان موصوفان بأنهما رقيبان وعتيدان ، فكل منهما رقيب ، أى : حافظ للأعمال متتبع لأمور الإنسان ، يحصيها ويسجلها ، وكل منهما عتيد ، أى : حاضر مهيأ معد لذلك.
وقال بعض العلماء : في هذه الآية رهبة وهيبة وخوف وفزع لقوم ، وسكون وأنس وطمأنينة لقوم آخرين ، فهنيئا للعاملين المؤمنين ، وبؤسا وهلاكا للكافرين والفاسقين!! ويا حسرة على العصاة والمذنبين! حيث ينزل بهم الموت وفزعه ، فتراهم سكارى من هول ما يلاقونه (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) نعم كل إنسان يلاقيه الموت وشدته وتغمره غمرته التي تغلب عقله ، وتلهيه عمن حوله ، ويشغله عن ماله وولده ، وعند ذلك يظهر له الحق ، ويتضح له الأمر ، ويدرك مكانه ، ويرى عمله وأن ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والثواب والعقاب حق لا شك فيه ولا مراء ، تلك مواقف شديدة على غير المؤمنين ، أما المؤمنون فعند سكرات الموت يبشون ويفرحون لما يرون من مقدمات الخير الذي ينتظرهم.
ذلك هو الموت وما فيه ، الذي كنت أيها الكافر منه تحيد وعنه تميل.
ونفخ في الصور النفخة الثانية ليقوم الناس لرب العالمين ، ذلك الوقت الذي أوعد الله به الكفار والعصاة ، وانظر ـ رعاك الله ـ إلى قوله : وجاءت كل نفس معها سائق
__________________
١ ـ فيه إشارة إلى أنه تجوز عن قرب العلم بقرب الذات.