وهنا بحث آخر : في جميع السور التي بدئت بالقسم بغير الحروف كالسورة التي معنا نجد أن المقسم عليه واحد من ثلاثة : التوحيد ... الرسالة ... البعث ، تلك أصول الدين العامة ، ويلاحظ أن سورة الصافات وحدها هي التي أقسم فيها على التوحيد فقال الله (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) وفي سورة النجم. والضحى ، أقسم على صدق الرسول حيث قال : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) وقال : (وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) وبقية السور كان المقسم عليه فيها هو البعث والجزاء وما يتعلق به ؛ لأنهم أنكروا البعث وبالغوا في إنكاره ، وصدق الله حيث يقول : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ).
أقسم الله بالرياح التي تذرو التراب ذروا ، وتبدده في كل مكان ، فالرياح التي تحمل السحب الموقرة بالماء المحملة بالمطر ، فالرياح التي تجرى جريا سهلا فتحمل السحب ، وتدفع السفن ، فالتي تقسم المطر على الأماكن التي يريدها الله ، فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير ؛ وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذاريات فقال : هي الرياح ، وسئل عن الحاملات فقال : هي السحاب ، وسئل عن الجاريات يسرا فقال : هي السفن ، وسئل عن المقسمات أمرا فقال : هي الملائكة ، ويقول عمر ـ رضى الله عنه ـ في ذلك كله : لو لا أنى سمعت رسول الله يقول بهذا ما قلته. والله أعلم بكتابه ، أقسم الله بهذا على أن ما توعدون به لصادق ومتحقق الوقوع ، وأن الدين والجزاء لواقع ؛ وفي تخصيص المذكورات بالقسم رمز إلى شهادتها بتحقيق المقسم عليه وهو البعث من حيث إن من قدر على ذلك فهو قادر على تحقيق الوعد بالبعث ، إذ الرياح تذرو ذرات المياه ، وتحملها إلى طبقات الجو العالية ، فتتجمع سحبا بعد تفرقها ، ثم تجرى بيسر وسهولة إلى حيث شاء فتنزل مطرا ؛ أليس القادر على ذلك بقادر على أن يعيد الخلق بعد تفرق أجزائه وانحلاله في التراب أو الجو أو البحار؟!
وأقسم الله كذلك بالسماء ذات الحبك ، أى : الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب أو هي ذات الخلق البديع القوى ، وذات الزينة بالنجوم ، على أنكم ـ يا كفار مكة ـ في قول مختلف متباين ، فتارة تقولون على النبي : إنه شاعر ، وطورا إنه ساحر ، ومرة : إنما يعلمه بشر ، وأخرى : إنه مجنون ؛ وهذا دليل على التخبط وسوء الرأى ؛ ليس الأمر كذلك ؛ وإنما يصرف عن الرأى الحق والإيمان الكامل من صرف