رسلك ، فهم قد أبصروا حيث لا ينفعهم البصر (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) (١) يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا إنا موقنون ، فوعدك حق ولقاؤك صدق ، وقد علم الله أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ، وكيف يكون من هؤلاء إيمان وتوفيقهم إلى الطاعة ، ولو شئنا لآتينا كل نفس من النفوس هداها فتهتدى بالإيمان والطاعة باختيار منها وكسب لها ولكن لم نشأ توفيق الناس جميعا إلى ذلك ، بل حق القول منى وثبت وحم القضاء ونزل وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٢) وعند بعض العلماء في مثل هذه الآيات أن المعنى : ولو شئنا إلجاء الناس إلى الهدى لآتينا كل نفس هداها ، ولكن قضت حكمتنا أن يكون للجنة والنار قوم فتركناهم واختيارهم وحق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، وتقول لهم الخزنة حين دخولهم النار : ذوقوا العذاب الأليم بسبب نسيانكم هذا اليوم وترككم الاستعداد له فذوقوا عذاب الخلد الدائم بما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب.
وفي قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٣). وفي قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٤). مع قوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ، (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٥). (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٦) وقع خلاف بين العلماء هل العبد مجبور لا اختيار له نظرا إلى قوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٧) وأمثالها في القرآن؟ أم هو مختار والاختيار مناط الثواب والعقاب نظرا إلى قوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)؟ والواقع أنه قد فرط أصحاب كل رأى.
والحق ـ والله أعلم ـ أن هناك فرقا بين فعل فعلته باختيارك الظاهري ، وبين فعل فعلته مضطرا كارتعاش اليد مثلا ، فالكل من الله ، والله صاحب التصريف ، ولكن في الأول يظهر الاختيار بصورة واضحة ، وصح تعليق الثواب والعقاب حينئذ بصاحبه ضرورة أنه لا يعرف عند الفعل مشيئة الله له ، وإن كان في الواقع هو مجبور على هذا الفعل الموافق للمشيئة فهو مجبور في صورة مختار.
__________________
١ ـ سورة الكهف آية ٢٦.
٢ ـ سورة هود آية ١١٩.
٣ ـ سورة السجدة آية ١٣.
٤ ـ سورة يونس آية ٩٩.
٥ ـ سورة المزمل آية ١٩.
٦ ـ سورة الإنسان آية ٣٠ ؛ سورة التكوير آية ٢٩.
٧ ـ سورة الإنسان آية ٢٩.