اللين والعرض الجميل أصروا على كفرهم ؛ فماذا كان موقف نوح؟ إنه ناجى ربه وقال آسفا : رب إنى دعوت قومي ـ كما تعلم ـ إلى الإيمان والطاعة ليلا ونهارا وسرّا وإعلانا ، فلم أر منهم إلا عنادا واستكبارا عن الحق وعن الصراط المستقيم ، وإنى كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم أصموا آذانهم عن سماع تلك الدعوة ، وحجبوا عيونهم عنها ، وأصروا واستكبروا استكبارا.
وانظر إلى القرآن الكريم وهو يصور حالهم العجيبة حيث يعبر عن عدم سماعهم بأنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ، والجعل يقتضى دوام الوضع ، والأصابع يفهم منها المبالغة في السد ؛ فإن الذي يوضع طرف الإصبع لا الإصبع كله ، وانظر إلى قوله (واستغشوا ثيابهم) فإن المعنى أنهم بالغوا في التغطى بها مبالغة كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشى الجسم كله لا عيونهم فقط.
ثم إلى دعوتهم جهارا ، ثم إنى أعلنت لهم الحال وبينته لهم على كل وضع بحيث جمعت بين الإعلان والإسرار.
تلك هي المرحلة الأولى في الدعوة ، تلتها مرحلة ثانية هي مرحلة الشرح وبيان الحجة حيث قال نوح :
فقلت : استغفروا ربكم ، وتوبوا إليه ، إنه يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، إنه كان غفارا ؛ على أنكم إن آمنتم بربكم يرسل السماء عليكم بالمطر الكثير الذي يخصب الأرض ويأتى بالخير ، ويمددكم ربكم عند ذلك بأموال نافعة وأبناء وذرية صالحة ، ويجعل لكم جنات وبساتين. ويجعل لكم فيها الأنهار والعيون ، أى : إن آمنتم أمدكم بسعادة دنيوية تكفل لكم حياة رغدة وعيشة راضية.
ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا فناقشهم بقوله : أى شيء ثبت لكم حالة كونكم لا ترجون وقارا كائنا لله؟ والوقار العظمة ، والرجاء الخوف أو الاعتقاد ، فكأن المعنى أى سبب حصل لكم حال كونكم غير خائفين أو غير معتقدين لله تعالى عظمة توجب عليكم الإيمان بالله والطاعة لرسوله؟!! إن هذا لشيء عجيب ، وشيء تنكره العقول السليمة.
ما لكم لا تخشون الله وقدرته على كل شيء؟ وما لكم لا ترهبون سطوته فتؤمنوا به وتصدقوا برسله؟ وهو القادر على كل شيء ، وهو الذي خلقكم في أطوار مختلفة وفي