إذ مقتضى العلم الكامل بالخلق ، والعدل التام في الحكم أن الله لا يترك الخلق بلا حساب وثواب وجزاء ، إذ تركهم لا ينشأ إلا من أحد أمرين : إما لأنه لا يعرف حالهم ـ وحاشا لله أن يكون كذلك ـ وهو الذي خلقهم ، وإما لأنه غير عادل في حكمه وهو مستحيل عليه ، فظهر من هذا حسن وجلال قوله تعالى : بلى ـ نعم سيرجع إلى ربه للحساب ـ إن ربه كان به بصيرا.
فلا أقسم بالشفق وحمرته ، ولا بالليل وظلمته ، ولا بالليل وما جمع من خلق كان منتشرا في النهار ، ثم أوى إليه فجمعه تحت جناحيه ، وما جمع من أمهات إلى أفراخها ومن سائمات إلى حظائرها ، ومن نجوم اجتمعت في السماء ، وبالجملة ففي النهار الحركة والانتقال وفي الليل المأوى والسكون ، وأقسم بالقمر إذا اتسق ، واجتمع وتكامل ، واستدار وأنار الكون بنوره الكامل ليلة البدر.
لا أقسم بهذه الأشياء : لتركبن طبقا عن طبق ، لظهوره ووضوحه ، فهو غير محتاج إلى قسم ، أو المعنى : لا أقسم بهذه على إثبات البعث فإنه أمر جليل الشأن عظيم الخطر ، وهذه الأشياء لا يخشى منها أذى ، ولا يخاف منها ضرر. أو : لا أقسم بهذه الأشياء لتعظيمها ، فإنها عظيمة في نفسها من غير قسم ، وأيا كان فهو أسلوب للقسم مستعمل في لسان العرب. وقد أقسم الحق بهذه الأشياء لفتا لأنظار الناس إليها ، وأنها أثر من آثار القدرة الإلهية ، على أن في صفاتها ما ينفى كونها آلهة تعبد.
أقسم لتركبن طبقا على طبق ، ولتكونن في حالة شبيهة بتلك الحال ومطابقة لها تماما وهي الحياة الثانية ، أو لتركبن أيها الناس حالا بعد حال ، وأمرا بعد أمر ثم يستقر بكم الأمر إلى الواحد الأحد فيجازى كلا على عمله.
ألا ترى أن القادر على تغيير الأجرام العلوية ، والأفلاك السماوية من حال إلى حال قادر على البعث وإحياء الإنسان بعد مماته؟ فما لهم لا يؤمنون؟ أى شيء ثبت لهم حتى كفروا بالله وباليوم الآخر؟ مع أن الشواهد كلها ناطقة على ذلك ، وأى شيء ثبت لهم حتى جعلهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون لله شكرا ، ولا يسجدون له إعجازا ، بل الذين كفروا يكذبون بلا حجة ولا برهان ، والله أعلم بما يحفظونه في قلوبهم من كفر وحسد وبغضاء ، إذا كان الأمر كذلك فبشرهم بعذاب أليم ، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير مقطوع. والله أعلم.