مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢) [النحل : ١١٢].
ففي هذا النص السامى تلاقينا عدة استعارات تبلغ أعلى درجات السمو البيانى ، ولنأت من آخر النص الكريم فآخره كأوله فى اجتذاب النفوس والعقول والمشاعر إلى معانيه ومبانيه ، أضاف اللباس إلى الجوع ، وفى ذلك تشبيه بالجوع من إضافة المشبه به على سبيل الاستعارة ، فالجوع القائم المستمكن الذى يعم فيه القل ويكثر العدم ، والخوف الذى يفزع النفوس ، ويذهب بالاطمئنان ، ويلقى بالاضطراب شبه باللباس السابغ ، لأن اللباس يعم ويكسو الجسم كله ، وكذلك الجوع إذا عم ، والخوف إذا طم ، فإنه لا يبقى فى الجماعة أحدا لم ينله ، لأن الأزمات الجائحة ، والخوف من عدو داهم لا ينجو منه أحد ، فكان التعبير عن هذه الحالة باللباس ، وفوق ذلك فإن اللباس يلتصق بالجسم ويلازمه ولا يفارقه ، وكذلك الجوع والهم والغم والخوف ، وفى ذلك تصوير للأمة أو المدينة إذا عمها البؤس والشقاء وداهمها الخوف من كل ما يحيط بها.
وهناك استعارة أخرى ، وهى قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) فإن اللباس يلبس ولا يذاق ، ولكن لباس الجوع والخوف لأنه يتصل بالنفس ، وبالنعمة تزول بعد أن كفروا بها ، عبر عنه بالذوق ، فشبه حال النزول بحال الإذاقة ، للنزول الذى ترتب عليه أن أحسوا بمرارة المذاق بعد أن كانوا فى بحبوحة العيش ، فكان التعبير بأذاق أنسب لهذا المعنى.
وهناك استعارة تمثيلية ثبتت من مجموع العبارات ، وهى تشبيه حال جماعة من الناس كانت مؤمنة مرزوقة فلما كفرت بالنعم فلم تقم بحقها ، ولم تؤد الطاعات ، ولم تنته عن المنهيات بحال قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها واسعا من كل مكان فجحدت نعمة الله تعالى فضاق رزقها ، وبدلت من الأمن خوفا ، ومن الرغد جوعا.
١١٢ ـ ومن الأمثلة التى ساقها الرمانى للاستعارة قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، ، يقول فى التعليق على هذا النص الكريم : أصل الاشتعال للنار وهو فى هذا النص أبلغ ، وحقيقته كثرة شيب الرأس ، إلا أن الكثرة لما كانت تتزايد تزايدا سريعا ، صارت فى الانتشار والإسراع كاشتعال النار ، وله موقع فى البلاغة عجيب ، وذلك أنه انتشر فى الرأس انتشارا لا يتلافى كاشتعال النار.
وإن هذا التعبير لم يكن معروفا عند العرب ، وذلك أنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار ، للسرعة ، وللبياض ، وللملازمة ، ولأنه ينتهى بتدمير ما تتصل به ، وتجعل حطامه ترابا.