معلوما على الجملة فإنه لا تطمئن نفس العاقل فى كل ما يطلب به العلم حتى يبلغ فيه غايته ، وحتى يغلغل الفكر فى زواياه وحتى لا يبقى موقع شبهة ، ولا مكان مسألة».
١١٦ ـ هذا ، وإن هذه الطرق البيانية من تشبيه واستعارة وسائر أنواع المجاز ، والكناية ليست فى ذاتها ، بحيث إذا وجدت فى أى قول كان بليغا ، إنما البلاغة لا بد أن تكون متحققة ابتداء فى مادة الكلام وفى موضعه ، وفى صوره البيانية ، وإن هذه طرق تكون جزءا من بلاغة الكلام البليغ ، وليست هى الخاصة التى تجعله بليغا ، ولو لم يكن ذا موضوع ، أو كان موضوعه من سفساف القول ، وغث المعانى ومبتذلها ، إنما قد تكون مع أخوات لها فى مثل جمالها ، وجلال موضوعها».
وقد ذكرنا ذلك فى ماضى قولنا فى الاستعارة فى قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ، فإنا نجد بلا ريب جمالا واضحا فى تشبيه شيوع الشيب فى الرأس باشتعال النار ، ولكن فى الحقيقة لا نجد الجمال فى هذه الاستعارة وحدها ، بل فيها وما معها من نظم ، وتآخ فى الكلمات ، وقد بين ذلك عبد القاهر فى دلائل الإعجاز ، فقال فى بيان أن الجمال والجلال إنما يكون فى مجموع القول لا للاستعارة وحدها : «إنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ، لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة ، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها ولم يروا للمزية موجبا سواها ، هكذا نرى الأمر فى ظاهر كلامهم وليس الأمر على ذلك ، ولا هذا الشرف العظيم ، ولا هذه المزية الجليلة ، ولا هذه الروعة التى تدخل على النفوس لمجرد الاستعارة ، ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء ، وهو لما هو من سببه ، فيرفع به ما يسند إليه ، ويؤتى بالذى هو الفعل له من المعنى منصوبا بعده مبينا أن ذلك الإسناد ، وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل الثانى ، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة كقولهم طاب زيد نفسا ، وقر عمرو عينا ، وتصبب عرقا ، وكرم أصلا ، وحسن وجها ، وأشباه ذلك مما نجد الفعل فيه منقولا إلى ما ذلك الشيء من سببه (١) وذلك أن نعلم أن اشتعل للشيب فى المعنى ، وإن كان هو للرأس فى اللفظ كما أن طاب للنفس ، وقر للعين ، وتصبب للعرق ، وإذا أسند إلى ما أسند إليه كان لأنه سلك فيه هذا المسلك وتوخى به هذا المذهب. وإن تدع هذا الطريق فيه وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحا ، فنقول اشتعل شيب الرأس ، والشيب فى الرأس ، ثم ننظر هل تجد ذلك
__________________
(١) يريد عبد القاهر أن يقول أن الجمال فى «اشتعل الرأس شيبا» ليس فى الاستعارة فقط إنما هو ابتداء فى التمييز المحول من الفاعل ، فقد ذكر الفعل غير مسند لفاعله ، بل أسند لما هو فى موضع الفاعل ، ثم ذكر بعد ذلك الفاعل الحقيقى وهو الشيب على أنه تمييز ، وفى التعبير بالتمييز بدل الفاعل إشارة إلى سبب إسناد الفعل ، وسبب ذكر الاشتعال.