ويقول الباقلانى فى كتابه إعجاز القرآن عن بديع نظمه : إنه بديع النظم عجيب التأليف ، متناه فى البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عنه والذى أطلقه العلماء هو على هذه الجملة ، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ، ونكشف الجملة التى أطلقوها. ثم يتكلم عن الإعجاز فى النظم فيقول :
«فالذى يشتمل عليه بديع نظمه وجوه :
منها ما يرجع إلى الجملة ، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه. وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم ، وله أسلوب يختص به ، ويتميز فى تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد ، وذلك أن الطرق التى يتقيد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه ، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى ، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع ، ثم إلى معدل موزون غير مسجع ، ثم إلى ما يرسل إرسالا ، فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعانى المعترضة على وجه بديع ، وترتيب لطيف ، وإن لم يكن معتدلا فى وزنه ، وذلك شبيه بجملة الكلام الذى لا يتعمل فيه ، ولا يتصنع له ، وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه ، ومباين لهذه الطرق ، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع ، ولا فيه شىء منه ، وكذلك ليس من قبيل الشعر ، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع ، ومنهم من يدعى أن فيه شعرا كثيرا ، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الوضع.
فهذا إذا تأمله المتأمل ، تبين له بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة ، وأنه معجز ، وهذه خصوصيات ترجع إلى القرآن وتميز حاصل فى جميعه.
وإن الباقلانى لا يكتفى بذكر ما بين أن القرآن ليس على الصفة التى امتاز بها بليغ الكلام عند العرب ، بل هو أعلى من ذلك يأتى بأبلغ الشعر وأبينه وأجود الخطب وأوقعها ، ثم يأتى بأكمل الكتب ، ولا يكتفى بذكر كلام البلغاء ، بل بكلام صاحب جوامع الكلم وهو محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيقرر أنه وإن كان فوق أى كلام للبشر ، دون كتاب الله ، المعجز بكل ما اشتمل عليه ، وبكل ما فيه من لفظ ونغم وأسلوب.
ويذكر رضى الله عنه وجها آخر من وجوه الإعجاز فى نظم القرآن وأسلوبه ، فيقول :
«ومنها أنه ليس للعرب كلام يشتمل على هذه الفصاحة والغرابة ، والتصرف البديع ، والمعانى اللطيفة ، والفوائد الغزيرة والحكم الكثيرة ، والتناسب فى البلاغة ، والتشابه فى البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر ، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات محدودة ، وألفاظ قليلة ، وإلى شاعرهم قصائد محصورة (قليلة أو كثيرة) يقع فيها ما