ولا نعرف الأسباب التى علت به ، وليس هذا من الصرفة ، كما ذكرنا ، إنما الصرفة أن نعرف قدره وقدرتنا على مثله ، ولكن ننصرف عن ذلك.
وإن القرآن ليس من قبيل ما اصطلح عليه الناس فى علوم البلاغة ، فليس نثرا مرسلا كما ذكرنا ، لأن النثر المرسل ليس له نغم مؤتلف ، وهو فى قدرة كل إنسان بليغ ، وقد تلونا عليك بعض الآيات فى الأحكام الشرعية ، فرأينا ائتلافا فى النغم ، وروعة فى البيان ، لا تجعلانها كلاما مرسلا كسائر الكلام ، فإنك واجد التآخى بين الألفاظ والتناسق فى الأسلوب ، والمعانى التى تتداعى ويأخذ بعضها بحجز بعض ، وكل كلمة تومئ إلى أختها.
ولنضرب مثلا من الكلام الذى ليس فيه ما يشبه السجع ولا القافية ولا الازدواج ولا الشعر ، اقرأ قوله تعالى :
(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (٩٨) [الأنعام : ٩٥ ـ ٩٨].
إنك واجد فى كل كلمة مع أختها إشراقا ، وصورا بيانية ، لقد ذكر سبحانه ، كيف يخلق الحب فيكون زرعا ، إذا أتى حصاده أكل منه الإنسان والحيوان ، وازّينت به الأرض ، وأتت من كل زوج ، وغير ذلك من الصور والأحياء ، ثم التعبير بفالق النوى ، وكيف يخرج من النوى الدوحة الباسقة الوارفة الظلال ، والأشجار الدانية القطوف ، واليانعة الثمار ، ثم كيف يعطر الوجود بالرياحين والزهور من هذه النواة اليابسة ، وكيف يخرج سبحانه وتعالى من التراب أحياء ، ومن الحب الجامد والنواة الصلبة غصونا حية ، وزروعا رطبة ، وكيف تدور الحياة إلى موت ، فيخرج الميت من الحى وإن ذلك مرئى ، وإنما ينبت الزرع ويخضر ، ويستوى على سوقه بعد أن يخرج شطأه ، ثم يصير حطاما.
ثم بين سبحانه أن الذى فعل ذلك هو سبحانه فى إشارات بيانية ، فيها استعلاء ، وفيها توجيه بأبلغ ما يكون التوجيه ، ثم كان الختام باستفهام إنكارى وتعجب ، لأن الأمر يستدعى التعجب فى ذاته ، ثم ختم الكلام بختام فيه رنات قوية لائمة فى معناها. ومنبهة للعقول فى نغمها وفى موسيقاها ، ثم جاء بعد البيان عن الأرض وما فيها من زرع وضرع ، وباسقات ـ إلى السماء ، وما فيها من بروج وأفلاك ونجوم وشمس وقمر ،