ومن هذا النقل يتبين أن الباقلانى يرى أن ألفاظ القرآن غرة فى كل كلام ، وأن لها رونقا ، وأن لها دخلا فى إعجازه ، وأن صورة الكلمة ومخارج حروفها لها روعة ذاتية ؛ لأن ذلك من عند العزيز الحكيم.
وإن المتأخرين ممن كتبوا فى إعجاز القرآن رأوا أن فى الكلمة فى القرآن بلاغة خاصة بأدائها ، بمدها وغنها ، وبأصواتها الموسيقية ، وبنغماتها الحلوة ، فلا يمكن أن يكون التآخى بينها وبين أخواتها فى المعانى فقط ، بل إن التآخى ، كما هو ثابت فى المعانى ثابت فى الموسيقى ، وإذا كان الله تعالى قد اختار للقرآن ترتيلا يبدو فيه نغمه ومده ، ورنين ألفاظه ، فلا بد أن تكون ألفاظه قد اختيرت لمزية فى كل كلمة لا فى مجموعها فقط ، ومن أنصار الرأى الذى نظر إلى فصاحة الكلمة الرافعى رحمهالله تعالى ، ورضى عنه فى كتابه إعجاز القرآن ، فقد قال :
«لما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه فى كلماته ، وكلماته فى جمله ألحانا لغوية رائعة كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة ، قراءتها هى توقيعها ، فلم يفتهم هذا المعنى ، وأنه أمر لا قبل لهم به ، وكان ذلك أبين فى عجزهم ، حتى أن من عارضه منهم كمسيلمة جنح فى خرافاته إلى ما حسبه نظما موسيقيا أو بابا منه ، وطوى عما وراء ذلك من التصرف فى اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البيانى ، كأنه فطن أن الصدمة الأولى للنفس العربية ، إنما هى فى أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها ، وليس يتفق ذلك فى شىء من كلام العرب. إلا أن يكون وزنا من الشعر أو السجع ، وهو بهذا لا يرى رأى الجرجانى فى أن الكلمات ليس لها مزايا خاصة ، والله أعلم».
٤٦ ـ هذان رأيان يبدو أنهما متعارضان فى كون فصاحة الكلمة جزءا من البلاغة أو الفصاحة ، وإن لم يكن بينهما فرق ، فالأول لا ينظر إلى الجزء وهو الكلمة ، بل لا ينظر إلا إلى المجموع المؤتلف ، والآخر ينظر إلى الأجزاء وإلى المجموع معا ، بل لا يرى المجموع يكون بليغا إلا إذا انتهى إلى ألحان مؤتلفة ، من حروف فى كلمات ، متآلفة ، وكلمات فى أسلوب مؤتلف فى نغماته وترتيله ، وتناسق بيانه.
ولا شك أن الكلمة وحدها من غير أن تكون فى مجموعة ليس لها بلاغة ولا مؤدى ، فكلمة شجر من غير أن تكون فى كلام ليس لها مؤدى إلا أن تكون فى جملة مفيدة تؤدى معنى وتكون بحروفها وقوتها أو لينها متآخية مع أخواتها من الكلام ، ولكن لا بد للكلمة مع الكلمات الأخرى من أن تكون متلاقية فى لحن القول والمراد منه ، وتحقيقه ، فهى وحدها لا تؤدى منفردة ، ولكن بضمها إلى أخرى يكون المعنى القوى ، ويكون النغم الجميل ، ويكون الترتيل الذى يملأ النفوس ، وتطمئن به ، وتقشعر منه الأبدان إن أنذر ، وتهدأ إن بشر ، وتتفكر العقول إن دعا إلى التأمل.