عاقل إن الراكب خلق جري الفرس ولا سرعتها ، ولا غير ذلك من أفعالها ، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل يدل على أنه خلقه ، وكذلك أيضا السفن يحصل سيرها وتوجهها في السير من يمين إلى شمال على حسب قصد الملاح ، ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها فإن كابروا الحقائق وقالوا نقول إن ذلك خلقه الملاح والفارس فقد خرجوا عن الدين وسووا بين الخالق والعباد ، وأن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات ، وهذا كفر صراح ، وإن قالوا : حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح وليس بخلق له. قلنا : فكذلك أفعال أحدنا قد تقع ، ولا نقول إنها تقع في كل حال على حسب قصده ، ولا يدل ذلك على أنه خلقها فاخترعها. يؤكد ذلك أن البياض يحصل في الناطف عند قصد الناطفي له ، ولا يقول أحد إن واحدا منا يقدر أن يخلق لونا لغيره ولا لنفسه ، فلا يمتنع أن يكون الفعل قد يحصل على حسب قصد أحدنا ، وليس هو خلقا له ولا موجودا له ، من العدم إلى الوجود. فاعلم ذلك.
يؤكد هذا أيضا أن نمو الزرع يحصل على حسب قصد الزارع وقيامه عليه بسقيه وغير ذلك ، ولا يقول أحد إن نمو الزرع خلقه الزارع ، ولا أنه خلق في الحبة أضعاف عددها [وكذلك] ما حصل فيه النمو من الفسيل والتين. وغير ذلك.
وكذلك سمن الدابة يحصل على قصد العالف لها والساقي ، ولا يقول أحد إن العالف والساقي هو الذي خلق الشحم والسمن في الدابة. وكذلك دود القز يحصل منه القز على حسب قصد القائم عليه والمربي له ، ولا يقال إن القز خلقه في الدود إلا الله تعالى ، وإن كان حاصلا على حسب إرادة القائم عليه وقصده ، وكذلك فيما يحصل من الواحد منا إذا أراد الله تعالى حصوله على حسب قصده ، لا يدل على أنه هو خلقه بل الخالق له هو الله تعالى.
فإن قيل : فإذا لم يكن أحدنا خالقا لفعله ، فكيف يكون ملوما عليه ومعذبا به ويستحق عليه المدح والثواب أو الذم والعقاب؟ فالجواب :
إننا لا نقول إن المدح والثواب ، ولا الذم والعقاب يحصل بفعل الفاعل منا ؛ حتى يوجب ذلك كونه خلقا له واختراعا ، بل نقول : إن ذلك يحصل بحكم الله تعالى ، ويجب ويستحق بحكمه لا [بأن] يوجب الواجب عليه خلق [فعل] أوجبه عليه. ألا ترى بالإجماع منا ومنكم ومن جميع المسلمين : أن الدية تجب على العاقلة. بقتل غيرها خطأ. وإن لم تفعل العاقلة شيئا يستحق به إيجاب ذلك عليها ، وإن ذلك الذي