المرتبة الثانية: التأويل، وهو مقام خطر(١).
__________________
(١) يقول في شرح المشكاة: قال النووي في شرح مسلم: في هذا الحديث (حديث النزول) وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها مذهبان مشهوران: فمذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين الإيمان بحقيقتها على ما يليق به تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويلها مع اعتقادنا تنزيه اللّه سبحانه عن سائر سمات الحدوث، والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف وهو محكي عن مالك والأوزاعي إنما يتأول على ما يليق بها بحسب بواطنها فعليه الخبر مؤول بتأويلين أي المذكورين. وبكلامه وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك عما يفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع، فاضطر جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ عن ظاهره، وإنما اختلفوا هل نصرفه عن ظاهره معتقدين اتصافه سبحانه بما يليق بجلاله وعظمته من غير أن نؤوله بشيء آخر وهو مذهب أكثر أهل الخلف وهو تأويل تفصيل ولم يريدوا بذلك مخالفة السلف الصالح معاذ اللّه أن يظن بهم ذلك وإنما دعت الضرورة في أزمنتهم لذلك لكثرة المجسمة والجهمية وغيرهما من فرق الضلال واستيلائهم على عقول العامة، فقصدوا بذلك ردعهم وبطلان قولهم ومن ثمة اعتذر كثير منهم وقالوا: لو كنا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمنهم لم نخض في تأويل شيء من ذلك وقد علمت أن مالكا والأوزاعي وهما من كبار السلف أوّلا الحديث تأويلا تفصيليا وكذلك سفيان الثوري أوّل الاستواء على العرش بقصد أمره ونظيره: (ثُمَّ اسْتَوىٰ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: ٢٩] أي قصد إليها ومنهم الإمام جعفر الصادق، بل قال جمع منهم ومن الخلف: أن معتقد الجهة كافر كما صرّح به العراقي وقال إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني، وقد اتفق سائر الفرق على تأويل نحو (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ) [الحديد: ٤] (مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ) [المجادلة: ٧] الآية (فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ) [البقرة: ١١٥] وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] و «قلب المؤمن بين إصبعين من أصبع الرّحمن» و «الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض» وهذا الاتفاق يبين لك صحة ما اختاره المحققون أن الوقف على (الرّٰاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لا الجلالة. قلت: الجمهور على أن الوقف على (إلا اللّه) وعدوا وقفه وقفا لازما وهو الظاهر لأن المراد بالتأويل معناه الذي أراده تعالى وهو في الحقيقة لا يعلمه إلا اللّه جلّ جلاله ولا إله غيره، وكل من تكلم فيه تكلم بحسب ما ظهر له ولم يقدر أحد أن يقول إن هذا التأويل هو مراد اللّه جزما ففي التحقيق الخلاف لفظي ولهذا اختار كثيرون من محققي المتأخرين عدم تعيين التأويل في شيء معين من الأشياء التي تليق باللفظ ويكلون تعيين المراد بها إلى علمه تعالى، وهذا توسط بين المذهبين وتلذذ بين المشربين واختار ابن دقيق العيد توسطا آخر فقال: إن كان التأويل من المجاز البيّن الشائع سلوكه من غير توقف أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه وإن استوى الأمران فالاختلاف في جوازه وعدمه مسألة فقهية اجتهادية والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين. قلت: التوقف فيها لعدم ترجيح أحد الجانبين مع أن التوقف مؤيّد بقول السلف ومنهم الإمام الأعظم اه.