قال الصديق رضي الله عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك ، وقال رضي الله عنه : سبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فهو سبحانه عليم قدير سميع بصير لا يوصف علمه وقدرته وسمعه وبصره بما يوصف به المخلوق ولا حقيقته وكذلك علوه واستواؤه إذ الصفة تتبع الموصوف فإذا كانت حقيقة الموصوف ليست من جنس حقائق سائر الموصوفات فكذلك حقيقة صفاته فأجهل الناس وأحمقهم وأجحدهم للحق من يشبه من ليس كمثله شيء بالمخلوق المصنوع في شيء من صفاته وأفعاله وذاته (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣)) [الإسراء : ٤٣] لأنه سبحانه وتعالى وصفاته مصون عن الظنون الكاذبة والأوهام السخيفة وقد قيل في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] أي ما وصفوه حق وصفه وقيل ما عظموه حق عظمته وقيل ما عرفوه حق معرفته وقيل غير ذلك.
قال بعض أهل المعاني والقلوب : لا يعرف قدر الحق إلا الحق وكيف يقدر أحد قدره وقد عجز عن معرفة قدره الوسائط والرسل والأولياء والصديقون ، ثم قال : ومعرفة قدره أن لا تلتفت عنه إلى غيره ولا تغفل عن ذكره ولا تفتر عن طاعته إذ ذاك (١) عرفت قدر ظاهر قدره وأما حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلا هو وصدق لأن الخلق تعجز عن تنزيهه بما يستحقه من كمال صفاته وعظم ذاته ولهذا نزّه سبحانه نفسه بقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)) [الصّافات : ١٨٠] وفي هذا غاية الحث على كثرة التنزيه ودوامه مع أمره لأكمل خلقه في قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)) [الأعلى : ١] مع غير ذلك مما في أشرف الكتب مما أذكر بعضه. فقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [الأعلى : ١] أي قل سبحان ربي الأعلى والمعنى نزّه اسمه ربك واذكره وأنت له معظّم وقيل نزّه عن المعاني المفضية إلى نقصه وقيل نزّه اسمه عن الكذب إذا أقسمت به وقيل لفظ اسم زائد وفي الكلام حذف المعنى نزّه مسمى ربك الذي خلق فسوّى أي مخلوقه بأن خلقه مستويا بلا تفاوت فيه وفي أعضائه وغير ذلك من مخلوقاته فإن من هذا من بعض مصنوعاته يستحق التنزيه فكيف بمخلوقات أخر يعجز الخلق عن إدراكها لعظمها وكلها على اختلاف أجناسها وأنواعها كل يسبّحه بلغته وبما يليق بجلاله.
قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] وقال : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ
__________________
(١) أي لو كنت كما ذكر تعرف قدر الخ ، اه مصححه.