وصدّق اللورد كرومر قول المستشار القضائي في الشيخ : «قام لنا بخدم جزيلة لا تقدّر ، في مجلس شورى القوانين ، في معظم ما أحدثناه أخيرا من الإصلاحات المتعلقة بالموادّ الجنائية وغيرها ، من الإصلاحات القضائية»!!
وقال اللورد أيضا : «وفي سنة ١٨٩٩ رقّي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن ، فأصبحت مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة ثمينة ، لتضلّعه من علوم الشرع الإسلامي ، مع ما به من سعة العقل واستنارة الذهن» ، ثم ذكر كمثال فتواه في تثمير الأموال في صناديق التوفير.
وقد طال أمد الصداقة بين الشيخ وبين اللورد كرومر ، فعرف كلّ منهما صاحبه ، فإذا انتقد مثله بعض نواحي الانتقاد في الشيخ ، لا يتّهم بغرض ، بل يعدّ منصفا ، ما غطّت صداقته على حقيقة أمر صديقه ، فدونك ما يقوله في «مصر الحديثة» ، على ما تجد في المجلد الحادي عشر من المنار (ص ٩٤) :
«وأخشى أن يكون صديقي محمد عبده في حقيقة أمره (لا أدريّا) ولو أنه يستاء منه لو نسبت إليه». ثم يأخذ عليه حديثه مع جمال الدين بشأن الخديو إسماعيل كما في (ص ٩٦) من المجلد المذكور. وأقرب الناس إلى الشيخ ما كان ينكر تساهل الشيخ في الإفتاء ، ويأخذ عليه أنجب تلاميذه المنفلوطيّ في «النظرات» فتحه لباب التأويل على مصراعيه (١) ، بل يستبعد كثير من الناس التجرؤ على المسائل المتوارثة ممن يرى قداسة الشرع.
والواقع أن للشيخ أطوارا في العلم والعمل والاتجاه ، فوجهته في عهد «العروة الوثقى» غير وجهته بعد اتصاله بزعيمه ، كما ذكره مصطفى عبد الرازق باشا في «الشباب». واتجاهه يوم رفع اللائحة إلى شيخ الإسلام العثماني غير اتجاهه فيما بعد ، وقد ذكرت صفحة منها في العدد (١٩ ـ ١٣٦٢ ه) من مجلة الإسلام ، ومن طالع «الواردات» و «العقيدة المحمدية» و «حاشية الدّوّاني على العضدية» و «فتاواه» وما نقل عنه في التفسير ، و «رسالة التوحيد» ، لا يصعب عليه فهم أطواره.
وتصوّره الخطاب إلى الحس في دين ، وإلى القلب في دين آخر ، وإلى العقل في دين الإسلام فقط : خيال شاعر يأباه قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) [الأنعام : ٨٣] وغيره من الآيات ، بل كلّ دين إلهي إنما يكون الخطاب فيه إلى العقل
__________________
(١) انظر في الجزء الأول من «النظرات» مقالة (يوم الحساب) ففيها نقد المنفلوطي لشيخه محمد عبده بأسلوب أدبي لاذع.