والسبب فيه ما عرفت من ان الناس يفهمون منها التوحيد بمقتضى ارتكازهم بلا حاجة إلى قرينة من حال أو مقال. ولكن قد يستشكل في دلالتها على التوحيد بأن خبر (لا) بما انه مقدر في الكلام فهو بطبيعة الحال لا يخلو من أن يكون المقدر ممكناً أو موجوداً ، فان كان الأول فالكلمة لا تدل على وجوده تعالى ، وان كان الثاني فهي لا تنفي إمكان إله آخر ، حيث ان نفي الوجود أعم من نفي الإمكان. والجواب عنه هو ان إمكان ذاته تعالى مساوق لوجوده ووجوبه نظراً إلى أن الواجب الوجود لا يعقل اتصافه بالإمكان الخاصّ ، فان المتصف به هو ما لا اقتضاء له في ذاته لا للوجود ولا للعدم ، فوجوده في الخارج يحتاج إلى وجود علة له ، فمفهوم واجب الوجود لذاته إذا قيس إلى الخارج فان أمكن انطباقه على موجود خارجي وجب ذلك كما في الباري سبحانه وتعالى ، وان لم ينطبق كان ممتنع الوجود كشريك الباري ، فأمر هذا المفهوم مردد في الخارج بين الوجوب والامتناع ولا ثالث لهما. والحاصل ان إمكان وجود هذا المفهوم في الخارج بالإمكان العام مساوق لوجوده ووجوبه فيه ، كما ان عدم وجوده فيه مساوق لامتناعه وعليه فهذه الكلمة تدل على التوحيد سواء أكان الخبر المقدر ممكناً أو موجوداً.
وقد يستدل على ذلك كما عن بعض بأن الممكن بالإمكان العام إذا لم يوجد في الخارج فبطبيعة الحال اما ان يستند عدم وجوده إلى عدم المقتضى أو إلى عدم الشرط أو إلى وجود المانع ، وكل ذلك لا يعقل في مفهوم واجب الوجود ، ضرورة ان وجوده لا يعقل ان يستند إلى وجود المقتضى مع توفر الشرط وعدم المانع فيه والا لانقلب الواجب ممكناً ، بل نفس تصوره يكفي للتصديق بوجوده ، ويسمى هذا البرهان بالبرهان الصديقين عند العرفاء ، ومدلوله هو ان نفس تصور مفهوم واجب الوجود على واقعه