أثبت فيه عدم قدرة العقل على إثبات المعاد الجسماني رجع وقال فيه قولاً تعبدياً ، خلافاً لمبناه ومنهجه العلمي في إثبات المسائل الإلهية وغير الإلهية ، وعندئذ تضاربت الآراء والأنظار في مصداقية الشيخ الرئيس في مقالته هذه ، فبعضهم حمله محملاً حسناً ، فقال : ( إن الذي بعث الشيخ على هذا الأمر ، هو تواضعه العظيم أمام الشرع وقبول الحقيقة ) ، (١) وبعضهم الآخر لم يحمله محملاً حسناً ، بل کان يقول : ( إن الذي بعث بالشيخ في قبول هذا الأمر ، هو التقية من متکلمي المسلمين في ذلک الزمان ) ؛ (٢) لأنّهم يعتبرون مسألة المعاد الجسماني ضرورة من ضروريات الدين الإسلامي ، فمن لم يعتقد بها ، أو لم يصدق بها ، أو من لم يقل بها فهو کافر ؛ لإنکاره هذه الضرورة من ضروريات الدين الإسلامي ، بينما لا يرى المتأخرون کما کان عليه المتقدمون ، بل فصلوا بين إنکار أصل المسألة والاعتقاد بها « مسألة المعاد » وبين تقرير کيفيتها « من أنّه جسماني أو روحاني أو جسماني وروحاني معاً » ، فالأولي يعد إنکارها من باب إنکار ضرورة من الضروريات ، والثانية لا يعد منکرها منکراً لضرورة من ضروريات ، والثانية لا يعد منکرها منکراً لضرورة من ضروريات الدين ، والشيخ الرئيس لم ينکر أبداً المسألة من أساسها ، ولکن البحث العقلي الاستدلالي انتهى به إلى القول بالمعاد الروحاني من غير أن يکون جاحداً بأصل المسألة ، وباعتبار أنه مؤمن بالدين الإسلامي فلا يجرأ على مخالفة ما جاء به الوحي الإلهي ، لأن الإيمان به يوجب إيماناً بکل ما جاء به ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى إنّ الشيخ الرئيس لا يرى العقل قادراً مطلقاً على معرفة کل الموجودات ، وإدراک کنهه وحقيقته ، وکثيراً ما کان يصرح بهذه الحقيقة حتى أصبحت واضحة عنه أوضح من الشمس في رائعة النهار ، وإليک بعض الشواهد من کلامه.
قال في باب معرفة کنه وذات الأشياء ما هذا الأشياء ما هذا نصه : ( الوقوف على حقائق الأشياء
ــــــــــــــــ
١. الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب التعليقات ، ص ٣٤ ، ٣٥.
٢. المصدر السابق ، ص ١٣٧.