فقد كان يحاضر تلامذته كلّ يوم مادة خاصة ، وتلك بدايات التخصص عند تلامذته ، فنجد بعضهم برع في التفسير ، وبعضهم في الفقه ، وبعضهم في الأدب ، إلى آخر ما هنالك من فنون المعرفة التي كان ابن عباس يحاضر فيها ، وهو بحق يسعنا أن نجعله العالم الموسوعي في رأس قائمة أصحاب التنظيم الدراسي يومئذ ، إذ لم يكن معروفاً لدى الصحابة في عصرهم من يدعو إلى منهج الإختصاص الذي شمخت به المناهج الحديثة في بلادنا مستوردة له من غيرنا ، وعدّته زمرة الناعقين وراء المستشرقين أنّه من حسناتهم ، ولو أنّهم قرأوا تأريخهم المجيد ، لرأوه حافلاً بأحسن ممّا أتاهم من بعيد ، فهو يساير سنة التطور والتجديد.
ولا أطيل في ذلك ، وحسبنا حديث أبي صالح الآتي عليهم من شهيد ، وقبل ذلك الحديث نقرأ قول ابن عباس نفسه لابن خلاد : « العلم كثير ولن تعيه قلوبكم ، ولكن ابتغوا أحسنه ، ألم تسمع قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (١) ».
أمّا ما قاله أبو صالح كما أخرجه ابن كثير في « البداية والنهاية » ـ ورواه غيره ـ فقد قال : « لقد رأيت من ابن عباس مجلساً لو أنّ جميع
____________
(١) الزمر / ١٨.