وهذا الحافظ ابن شاهين يكتب من حفظه بعد ما ذهبت كتبه عشرين أو ثلاثين ألف حديث. تاريخ بغداد (١١ / ٢٦٨).
وهذا الحافظ يزيد بن هارون يحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بأسنادها. شذرات الذهب (١) (٢ / ١٦).
فهلمّ معي نر أنّ إسلاماً هذه سعة نطاق علمه ، وكثرة طقوسه وسننه ، وغزارة فنونه وعلومه ، ونبيّا هذا حديثه وسنّته ، وهذه ودائعه المصلحة لأمّته ، وهذا شأن الأعلام أُمناء ودائع العلم والدين ، وهذه سيرة حفظة السنّة الشريفة ، كيف يجب أن يتحلّى خليفة ذلك النبيّ الأقدس بأبراد علوم الكتاب والسنّة؟ وكيف يحقّ أن يكون حاملاً لأعباء علوم مستخلفه ومعالمه ، وارثاً مآثره وآثاره؟ أفهل يُقتصر منه على مائة وأربعة أحاديث؟ أو تقبل الأمّة المسكينة أو تُجديها هذه الكميّة اليسيرة من ذلك الحوش الحائش؟ أو يسدّ ذلك الفراغ ، ويمثّل تلك العلوم الإسلاميّة الجمّة من هذا شأنه وشعاره ، وهذه سيرته وسنّته ، وهذا علمه وحديثه؟ أو يُتلقّى بالقبول عذر المدافع عن الخليفة بأنّ قلّة حديثه لقصر مدّة خلافته؟
أيّ صلة بين قصر العمر بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقلّة الرواية؟ فإنّ رواة الأحاديث على العهد النبويّ ما كان حجر عليها ، ولم يكن عقال في ألسن أولئك الصحابة الأوّلين ، ولا على الأفواه أوكية عن بثّ العلم من الكتاب والسنّة طيلة حياة النبيّ الأقدس.
ولم يكن المكثرون من الرواية قصروا أحاديثهم على ما بعد أيّامه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقلّة حديث الرجل إن هي إلاّ لقلّة تلقّيه ، وقصر حفظه ، إنّما الإناء ينضح بما فيه ، والأوعية إذا طفحت فاضت.
__________________
(١) شذرات الذهب : ٣ / ٣٣ حوادث سنة ٢٠٦ ه.