دليل على أنّه ثبت ولم يفرّ. وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين ، وقد فرّ المسلمون كلّهم والنفر التسعة محدقون به ، العبّاس آخذ بحَكَمَةِ (١) بغلته ، وعليّ بين يديه مصلت سيفه ، والباقون حول بغلته يمنةً ويسرةً ، وقد انهزم المهاجرون والأنصار ، وكلّما فرّوا أقدم هو صلىاللهعليهوآلهوسلم وصمّم مستقدماً يلقى السيوف والنبال بنحره وصدره ، ثمّ أخذ كفّا من البطحاء وحصب المشركين وقال : «شاهت الوجوه» ، والخبر المشهور عن عليّ وهو أشجع البشر : «كنّا إذا اشتدّ البأس وحمي الوطيس اتّقينا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولذنا به». فكيف يقول الجاحظ : إنّه ما خاض الحروب ولا خالط الصفوف؟ وأيّ فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الإحجام واعتزال الحرب؟ ثمّ أيّ مناسبة بين أبي بكر ورسول الله في هذا المعنى ليقيسه وينسبه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صاحب الجيش والدعوة ورئيس الإسلام والملّة ، والملحوظ بين أصحابه وأعدائه بالسيادة ، وإليه الإيماء والإشارة ، وهو الذي أحنق قريشاً والعرب ، وورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم ، وعيب دينهم وتضليل أسلافهم ، ثمّ وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم وأكابرهم ، وحقّ لمثله إذا تنحّى عن الحرب واعتزلها أن يتنحّى ويعتزل ، لأنّ ذلك شأن الملوك والرؤساء إذ كان الجيش منوطاً بهم وببقائهم ، فمتى هلك الملك هلك الجيش ، ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه ، وإن عطب جيشه فإنّه يستجدّ جيشاً آخر ، ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه ، وخطّئوا الإسكندر لمّا بارز فوسر ملك الهند ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم ، فليقل لنا الجاحظ : أيّ مدخل لأبي بكر في هذا المعنى؟ ومن الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل؟ وهل هو إلاّ واحد من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان وغيرهما؟ بل كان عثمان أكثر منه صيتاً ، وأشرف منه مركباً ، والعيون إليه أطمح ، والعدوّ عليه أحنق وأكلب. ولو قُتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثّر قتله في الإسلام ضعفاً؟ أو يحدث فيه وهناً؟ أو يخاف على الملّة لو قُتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس وتُعفّى آثارها وتنطمس منارها؟ ليقول الجاحظ : إنّ أبا بكر كان حكمه حكم
__________________
(١) الحَكَمَة : حديدة في اللجام تكون على أنف الدابة وحنكها تمنعها من مخالفة راكبها.