قال الأميني : نحن لا ننبس في الجواب عن هذه الأساطير المشمرجة (١) ببنت شفة ، وإنّما نقتصر فيه بما أجاب به عنها أبو جعفر الإسكافي المعتزلي البغدادي المتوفّى (٢٤٠) ، قال في الردّ عليها (٢) :
لقد أعطي أبو عثمان مقولاً وحرم معقولاً ، إن كان يقول هذا على اعتقاد وجدّ ، ولم يذهب به مذهب اللعب واللهو ، أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوّة والسلاطة وذلاقة اللسان وحدّة الخاطر والقوّة على جدال الخصوم. ألم يعلم أبو عثمان أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أشجع البشر وأنّه خاض الحروب وثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب ، وبلغت القلوب الحناجر؟ فمنها يوم أحد ووقوفه بعد أن فرّ المسلمون بأجمعهم ولم يبق معه إلاّ أربعة : عليّ ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ، فقاتل ورمى بالنبل حتى فنيت نبله وانكسرت سِية (٣) قوسه ، وانقطع وتره ، فأمر عكاشة ابن محصن أن يوترها ، فقال : يا رسول الله لا يبلغ الوتر ، فقال : أوتر ما بلغ. قال عكاشة : فوالذي بعثه بالحقّ لقد أوترت حتى بلغ وطويت منه شبراً على سِية القوس ، ثمّ أخذها فما زال يرميهم حتى نظرت إلى قوسه قد تحطّمت ، وبارز أُبيّ بن خلف ، فقال له أصحابه : إن شئت عطف عليه بعضنا فأبى ، وتناول الحربة من الحارث بن الصمّة ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير ، قالوا : فتطايرنا عنه تطاير الشعارير (٤) فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور ، ولو لم يدلّ على ثباته حين انهزم أصحابه وتركوه إلاّ قوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) (٥) فكونه صلىاللهعليهوآلهوسلم في أُخراهم وهم يصعدون ولا يلوُون هاربين ؛
__________________
(١) المشمرجة : المنسوجة.
(٢) رسائل الجاحظ : ص ٥٤ [ ص ١٥٥ ـ ١٥٦ الرسائل السياسية ] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٢٧٥ [ ١٣ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ خطبة ٢٣٨ ]. (المؤلف)
(٣) سية القوس : ما اعوجّ من طرفيها.
(٤) الشعارير : ما يجتمع على دبرة البعير من الذبّان ، فإذا هيجت تطايرت عنها. النهاية ٢ / ٤٨٠.
(٥) آل عمران : ١٥٣.