وبعد ما أوقفناك على مبلغ علمه في المشهودات ، فأين هو عن الغيوب؟
وأمّا الأوّل فلو كان ذلك لما كان لترديده بين الدفن في الحجرة إن فتح الباب وسقط القفل ، وبين الذهاب به إلى البقيع إن لم يكن ذلك [ أي معنى ] ، فإنّ ما أخبر به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لا بدّ أن يكون ، فلا ترديد فيه.
نعم ؛ من المحتمل أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يعهد ذلك لنفس أبي بكر وإنّما رواه عنه من لا يثق به الخليفة ولذلك نوّه بما قال بالترديد ، أو أنّ الرواية لا صحّة لها ، ولذلك لم تنتشر في الصحاح والمسانيد إلى عهد الحافظ ابن عساكر ، وهي على فرض صحّتها مكرمة عظمى وقعت بمشهد الصحابة ومزدحم المهاجرين والأنصار يوم شيّعوه إلى مقرّه الأخير ، وكان يجب والحالة هذه أن يتواصل الهتاف بها ، وبذلك الهتاف المسموع من القبر الشريف منذ ذلك العهد إلى منصرم الدهر ، ولم يكن يوم ذاك في الأبصار غشاوة ، ولا في الآذان وقر ، ولا في الألسنة بكم ، لكنه ويا للأسف لم ينبس أحد عنها ببنت شفة ، وما ذلك إلاّ لأنّ المكرمة لم تقع ، والقفل ما سقط ، والباب ما انفتح ، والهتاف لم يكن ، وأدخلوا الحبيب إلى الحبيب ، فإنّ الحبيب إلى الحبيب مشتاق مهزأة نشأت من الغلوّ في الفضائل تنبىء عن روح التصوّف في مختلق الرواية. نعم :
ما كلّ من زار الحمى سمع الندا |
|
من أهله أهلاً بذاك الزائرِ |
هذه الكرامة المنحوتة المنحولة ذكرها الرازي ومن بعده مرسلين إيّاها إرسال المسلّم ، محتجّين بها عداد فضائل أبي بكر ، غير مكترثين لما في إسنادها من العلل أو جاهلين بها ، وإنّما أخرجها ابن عساكر (١) من طريق أبي طاهر موسى بن محمد بن عطاء المقدسي عن عبد الجليل المدني عن حبّة العرني فقال : هذا منكر ، وأبو الطاهر
__________________
(١) تاريخ مدينة دمشق : ٥ / ٧٥٦ ـ ٧٥٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٣ / ١٢٥.