الكثيرون يعولون عليها تعويلهم على المشاهدة ، وكانوا يرجحونها على حكم العقل لأنه قد يسهل أن يسلم بنتائج غير صحيحة».
وكان بين المؤرخين دائما قوم يذكرون مختلف الروايات من غير تشيع ، وكان آخرون مع ما أظهروا من مراعاة لمطالب الحاضر لا يترددون في الحكم على الماضي أحكاما يتفاوت حظها من الصحة ، وكثيرا ما يسهل على الإنسان أن يصيب في حكمه على الحوادث الماضية أكثر مما يسهل عليه الحكم على شؤون العصر الذي يعيش فيه» (١).
وقد أنتج الفكر العربي عند ما استبحر في العمران ، واتسع نفوذه ، وازدادت معارفه قسما من أقسام التاريخ تفنن فيه تفننا يفوق الوصف ، وبلغ فيه مبلغا من الاتقان لا يدرك شأوه ، واستعمل فيه النقد والتمحيص إلى أبعد حدوده وذلك فن التراجم.
فإنه اتسع نطاق التأليف والمؤلفين فيه وذهبوا في الجودة والافتنان كل مذهب ، فقسموا كتبه إلى خاصة وعامة ، وبذلوا عناية كبرى في تتبع أحوال عظماء الرجال ، وآثارهم وكل ما يحيط بحياتهم ويلابسها من خير وشر ، وفضل ونقص ، وتعمقوا في مسايرة حياة من ترجموا لهم وتأثروهم خطوة خطوة. ولشدة عنايتهم بفن التراجم جعلوا المؤلفات العامة للنابهين في أي فن كان ، والخاصة لمن نبغ في فن مخصوص كالنحاة والأطباء والكتاب والشعراء والفقهاء والمتكلمين والحجاب والوزراء والزهاد والمتصوفة والأدباء والمغنّين ونحوهم.
فكانت هذه الكتب القيمة من أغزر الموارد في الأدب العربي ، وأروع الآثار في التاريخ ، لأنها تدلنا على كثير من الفوائد التي لا وجود لها إلا في التراجم ، ولولاها لا فتقدنا حلقات من تاريخنا لا يكمل وجوده بدونها ، وكان
__________________
(١) راجع تاريخ الفلسفة في الإسلام.