والتنقير عن علم التاريخ ، وما بصحائفه من عبر وعظات ، ومن بين تلك الأسفار ما يخص اليمن المبارك ، «مجر عوالينا ومجرى السوابق» ، أحببت أن أقوم بذلك الواجب بعد أن بذلت الوسع ، واستفرغت الجهد في جمع الشوارد ، وقيد الأوابد ، واستقراء النصوص ، وتتبع الأدلة حسب الإمكان.
وقد راعيت أمانة النقل ، وواجب العلم فيما احتجيت به من كلام الغير ، وأبحت القراء من عقلي ونفسي ما أبحتهم من عقول ونفوس من نقلت عنهم ، فلم أكتف بنقل ما قالوه وجادت به عقولهم من دون أن أبدي رأيي ، ولا سيما فيما تضاربت عنده الأفكار ، واختلفت فيه الروايات ، فإني لم أقف هنالك وقوف المشدود الحيران ، بل تقدمت ومحصت بقدر ما أستطيع ، (مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) ، ومن الله استمد التوفيق ، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وسأبتدي بذكر حضارة اليمن وأقوال المؤرخين في ذلك.
اليمن مهد الحضارة البشرية
اليمن الخضراء أو اليمن السعيد (١) ذات المروج الخضراء ، والسهول الممرعة ، والهضبات الخصبة ، والجبال الشاهقة ، والينابيع الفياضة ، والأنهار المتدفقة ، والأسداد المحكمة ، والآثار الخالدة ، مشرق شمس الحضارة ، ومطلع أفلاك المدنية ، مركز النبوغ ومعهد الثقافة ، مهد الإنسان الأول (٢) وأقدم بلدان المعمورة رقيا ، وأروعها مدنية ، وأعظمها عمرانا ،
__________________
(١) قال المؤرخ المعاصر الدكتور اسرائيل ولفنسون : «يعتقد جلاوز أن كلمة العرب السعيدة عن اليمن إنما هي ترجمة حرفية لكلمة اليمن باليونانية لأنها مأخوذة من اليمن والبركة ، لا كما يعتقد المستشرقون أن هذا اللفظ من اختراعات اليونان ، هذه ملاحظة دقيقة وتعارض النظرية التي تقول بأن كلمة اليمن تعني ناحية اليمين ، كما أن بلاد الشام من ناحية الشمال.
(٢) عن ابن قتيبة في كتاب المعارف.