النقوش وكشفوه من الآثار ووجدوه من المسكوكات ، فان تاريخ أولئك الأقوام لا يزال في مرحلته الأولى ، وطريق الدراسة مهما أمعن فيها المتوغل ، وتقليب الصفحات وان استغرقت أيام الحياة ، لا تسد الحاجة ولا تروي الغلة لما هنالك من مجاهل لا تهتدي الأفكار إلى مهيعها ، والحل الوحيد لهذه المشكلة إنما هو درس الآثار والتفهم لأسرارها ، وأظن الوقت قد حان للفوز بهذا الفخر العظيم ، فمن الخليق بتاج ذلك المجد الباهر يا ترى؟ الأمل وطيد في همم رجال الجد ، ذوي الغايات البعيدة ، والمراتب الكبيرة ، والنفوس العالية ، والضمائر الحية ، وما ذلك عليهم بعزيز.
إذن فما الحيلة؟ وكيف السبيل الآن إلى معرفة ما لا بد منه للمؤرخ ليعرف الحاضر حق العرفان ، لأنه لا يعرف بغير الماضي لما يستنتجه من المباحث التي تدرجت فيها الأمة وأدوار الانتقالات التي مرت عليها حتى يتسنى له وصف الروابط المعنوية والعادات الموروثة والأخلاق المتنقلة ، ليربط بين ماضيها وحاضرها برباط الوحدة التاريخية.
وهنا يقول القلم وهو يكاد يتعثر خجلا ، ليس أمامك أيها الباحث غير ما كتبه المستشرقون عن هذه البلاد ، وذلك المجد الضارب أطنابه بالنجوم وبقية ما دونه أولئك الآباء الأمجاد ، ولا أقول أنه من العار نقل ما كتبه المستشرقون (فالحكمة ضالة المؤمن) ولكن من العار الجمود عليه والوقوف عند ما رسموه ، وأن نبقى عالة عليهم حتى في معرفة بلادنا ، ومهد آبائنا ، ومدافن أجدادنا.
وعلى كل تقدير فإن للمستشرقين فضلا لا ينكر على التاريخ لإكتشافهم الآثار ، وحلهم النقوش ، ومواصلتهم البحث عن حقائق لها قيمة عالية في عالم التأريخ ، فقد أوضحوا كثيرا من خفاياه ، وعرفوا من الدول الغابرة والأمم القديمة ما لم يعرفه مؤرخو اليونان ولا الرومان ولا العرب أنفسهم كما سيأتي إن شاء الله قريبا.