فلما مات وثب ابنه على الأعمال ، واستبدّ بها ، فبعث ابن المدبر سبعمائة ألف وخمسين ألف دينار حملا من مال مصر إلى بغداد ، فقبض ابن شيخ عليها ، وفرّقها في أصحابه ، وكانت الأمور قد اضطربت ببغداد ، فطمع ابن شيخ في التغلب على الشامات ، وأشيع أنه يريد مصر ، فلما قتل المهتدي في رجب سنة ست وخمسين ، وبويع المعتمد بالله أحمد بن المتوكل لم يدع ابن شيخ له ، ولا بايع هو ، ولا أصحابه ، فبعث إليه بتقليد أرمينية زيادة على ما معه من بلاد الشام ، وفسح له في الاستخلاف عليها ، والإقامة على عمله ، فدعا حينئذ للمعتمد ، وكتب إلى ابن طولون أن يتأهب لحرب ابن شيخ ، وأن يزيد في عدّته ، وكتب لابن المدبر أن يطلق له من المال ما يريد ، فعرض ابن طولون الرجال ، وأثبت من يصلح ، واشترى العبيد من الروم والسودان ، وعمل سائر ما يحتاج إليه ، وخرج في تجمل كبير وجيش عظيم ، وبعث إلى ابن شيخ يدعوه إلى طاعة الخليفة ، وردّ ما أخذ من المال ، فأجاب بجواب قبيح ، فسار لست خلون من جمادى الآخرة ، واستخلف أخاه موسى بن طولون على مصر ، ثم رجع من الطريق بكتاب ورد عليه من العراق ، ودخل الفسطاط في شعبان.
وقدم من العراق : ماجور التركيّ لمحاربة ابن شيخ ، فلقيه أصحاب ابن شيخ ، وعليهم ابنه ، فانهزموا منه ، وقتل الابن ، واستولى ماجور على دمشق ، ولحق ابن شيخ بنواحي أرمينية ، وتقلد ماجور أعمال الشام كله ، وصار أحمد بن طولون من كثرة العبيد ، والرجال والآلات بحال يضيق به داره ، ولا يتسع له فركب إلى سفح الجبل في شعبان ، وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى ، واختط موضعها فبنى القصر والميدان ، وتقدّم إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أن يختطوا لأنفسهم حوله ، فاختطوا وبنوا حتى اتصل البناء لعمارة الفسطاط ، ثم قطعت القطائع ، وسميت كل قطيعة باسم من سكنها ، فكانت للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم ، وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم ، وللفرّاشين قطيعة مفردة تعرف بهم ، ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم.
وبنى القوّاد مواضع متفرّقة ، فعمرت القطائع عمارة حسنة ، وتفرّقت فيها السكك والأزقة ، وبنيت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات والأفران ، وسميت أسواقها ، فقيل : سوق العيارين ، وكان يجمع العطارين والبزازين ، وسوق الفاميين ، ويجمع الجزارين والبقالين والشوّايين ، فكان في دكاكين الفاميين جميع ما في دكاكين نظرائهم في المدينة. وأكثر وأحسن ، وسوق الطباخين ، ويجمع الصيارف ، والخبازين والحلوانيين ، ولكل من الباعة سوق حسن عامر ، فصارت القطائع مدينة كبيرة ، أعمر وأحسن من الشام ، وبنى ابن طولون قصره ووسعه وحسنه ، وجعل له ميدانا كبيرا يضرب فيه بالصوالجة ، فسمي القصر كله الميدان ، وكان كل من أراد الخروج من صغير وكبير إذا سئل عن ذهابه يقول :