فأخذني إنسان ، وكنت ذات جسم وسمن ، فأدخلني إلى بيت فيه سكاكين وآثار الدماء ، وزفرة القتلى ، فأضجعني على وجهي ، وربط في يديّ ورجليّ سلبا إلى أوتاد حديد عريانة ، ثم شرّح من أفخاذي شرائح وأنا أستغيث ، ولا أحد يجيبني ، ثم أضرم الفحم وشوي من لحمي ، وأكل أكلا كثيرا ، ثم سكر حتى وقع على جنبه لا يعرف أين هو ، فأخذت في الحركة إلى أن انحل أحد الأوتاط ، وأعان الله على الخلاص ، وتخلصت وحللت الرباط ، وأخذت خرقا من داره ، ولففت بها أفخاذي ، وزحفت إلى باب الدار ، وخرجت أزحف إلى أن وقعت إلى المأمن ، وجئت إلى بيتي ، وعرّفتهم بموضعه ، فمضوا إلى الوالي ، فكبس عليه وضرب عنقه ، وأقام الدواء في أفخاذي سنة إلى أن ختم الجرح ، وبقي كذا حفرا ، وبسبب هذا الغلاء خرب الفسطاط ، وخلا موضع العسكر والقطائع ، وظاهر مصر ، مما يلي القرافة حيث الكيمان الآن إلى بركة الحبش ، فلما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ إلى مصر ، وقام بتدبير أمرها نقلت أنقاض ظاهر مصر مما يلي القاهرة حيث كان العسكر والقطائع ، وصار فضاء وكيمانا ، فيما بين مصر والقاهرة ، وفيما بين مصر والقرافة ، وتراجعت أحوال الفسطاط بعد ذلك حتى قارب ما كان عليه قبل الشدّة.
وأما حريق مصر : فكان سببه : أنّ الفرنج لما تغلبوا على ممالك الشام ، واستولوا على الساحل حتى صار بأيديهم ما بين ملطية (١) إلى بلبيس إلّا مدينة دمشق فقط ، وصار أمر الوزارة بديار مصر : لشاور بن مجير السعديّ ، والخليفة يومئذ العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف ، اسم لا معنى له ، وقام في منصب الوزارة بالقوّة في صفر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ، وتلقب بأمير الجيوش ، وأخذ أموال بني رزيك وزراء مصر ، وملوكها من قبله ، فلما استبدّ بالإمرة حسده ضرغام صاحب الباب ، وجمع جموعا كثيرة ، وغلب شاور على الوزارة في شهر رمضان منها ، فسار شاور إلى الشام ، واستقل ضرغام بسلطنة مصر ، فكان بمصر في هذه السنة ثلاثة وزراء هم : العادل بن رزيك بن طلائع بن رزيك ، وشاور بن مجير ، وضرغام ، فأساء ضرغام السيرة في قتل أمراء الدولة ، وضعفت من أجل ذلك دولة الفاطميين بذهاب رجالها الأكابر ، ثم إن شاور استنجد بالسلطان : نور الدين محمود بن زنكي (٢) صاحب الشام ، فأنجده وبعث معه عسكرا كثيرا في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ، وقدم عليه أسد الدين شيركوه على أن يكون لنور الدين إذا عاد شاور إلى منصب الوزارة ثلث خراج مصر بعد إقطاعات العساكر ، وأن يكون شيركوه عنده بعساكره في مصر ، ولا يتصرّف إلا بأمر نور الدين ، فخرج ضرغام بالعسكر ، وحاربه في بلبيس فانهزم ، وعاد إلى مصر ، فنزل شاور بمن معه عند التاج خارج القاهرة ، وانتشر عسكره في البلاد ، وبعث
__________________
(١) ملطية : من بلاد الروم تتاخم الشام. معجم البلدان ج ٢ / ١٩٢.
(٢) الملقب بالملك العادل ملك الشام وديار الجزيرة ومصر وهو أعدل ملوك أهل زمانه وأجلهم. ولد في حلب سنة ٥١١ ه وتوفي في دمشق سنة ٥٦٩ ه. الأعلام ج ٧ / ١٧٠.