ضرغام إلى أهل البلاد ، فأتوه خوفا من الترك القادمين معه ، وأتته الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية ، فامتنعوا بالقاهرة ، وتطاردوا مع طلائع شاور بأرض الطبالة ، فنزل شاور في المقس ، وحارب أهل القاهرة فغلبوه ، وحتى ارتفع إلى بركة الحبش ، فنزل على الرصد واستولى على مدينة مصر ، وأقام أياما فمال الناس إليه ، وانحرفوا عن ضرغام لأمور ، فنزل شاور باللوق ، وكانت بينه وبين ضرغام حروب آلت إلى إحراق الدور من باب سعادة إلى باب القنطرة خارج القاهرة ، وقتل كثير من الفريقين ، واختلّ أمر ضرغام ، وانهزم ، فملك شاور القاهرة ، وقتل ضرغام آخر جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين ، فأخلف شيركوه ما وعد به السلطان نور الدين ، وأمره بالخروج عن مصر ، فأبى عليه واقتتلا.
وكان شيركوه قد بعث بابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلبيس ، ليجمع له الغلال وغيرها من الأموال ، فحشد شاور ، وقاتل الشاميين ، فجرت وقائع ، واحترق وجه الخليج خارج القاهرة بأسره ، وقطعة من حارة زويلة ، فبعث شاور إلى الفرنج واستنجد بهم فطمعوا في البلاد ، وخرج ملكهم مري من عسقلان بجموعه ، فبلغ ذلك شيركوه ، فرحل عن القاهرة بعد طول محاصرتها ، ونزل بلبيس فاجتمع على قتاله بها شاور وملك الفرنج ، وحصروه بها ، وكانت إذا ذاك حصينة ذات أسوار ، فأقام محصورا مدّة ثلاثة أشهر ، وبلغ ذلك نور الدين ، فأغار على ما قرب منه من بلاد الفرنج ، وأخذها من أيديهم ، فخافوه ، ووقع الصلح مع شيركوه على عوده إلى الشام ، فخرج في ذي الحجة ، ولحق بنور الدين ، فأقام وفي نفسه من مصر أمر عظيم إلى أن دخلت سنة اثنتين وستين ، فجهزه نور الدين إلى مصر في جيش قويّ في ربيع الأوّل ، وسيره فبلغ ذلك شاور ، فبعث إلى مري ملك الفرنج مستنجدا به ، فسار بجموع الفرنج ، حتى نزل بلبيس ، فوافاه شاور وأقام حتى قدم شيركوه إلى أطراف مصر ، فلم يطق لقاء القوم ، فسار حتى خرج من إطفيح (١) إلى جهة بلاد الصعيد من ناحية بحر القلزم ، فبلغ شاور أنّ شيركوه قد ملك بلاد الصعيد ، فسقط في يده ، ونهض للفور من بلبيس ومعه الفرنج ، فكان من حروبه مع شيركوه ما كان حتى انهزم بالأشمونين ، وسار منها بعد الهزيمة إلى الإسكندرية فملكها ، وأقرّ بها ابن أخيه صلاح الدين ، وخرج إلى الصعيد ، فخرج شاور بالفرنج وحصر الإسكندرية أشدّ حصار ، فسار شيركوه من قوص ونزل على القاهرة ، وحاصرها ، فرحل إليه شاور ، وكانت أمور آلت إلى الصلح وسار شيركوه بمن معه إلى الشام في شوّال ، فطمع مري في البلاد ، وجعل له شحنة بالقاهرة ، وصارت أسوارها بيد فرسان الفرنج ، وتقرّر لهم في كل سنة مائة ألف دينار ، ثم رحل إلى بلاده ، وترك بالقاهرة من يثق به من الفرنج ، وسار شيركوه إلى الشام ، فتحكم الفرنج في القاهرة حكما جائرا ، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم ، وتيقنوا عجز الدولة عن مقاومتهم ، وانكشفت لهم
__________________
(١) إطفيح : بلد بالصعيد الأدنى من أقصى مصر على شاطىء النيل في شرقيه. البلدان ج ١ / ٢١٨.