ثم إنه استدعى يوسف (١) بن زيري الصنهاجيّ ، وقال له : تأهب لخلافة المغرب ، فأكبر ذلك ، وقال : يا مولانا ، أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما صفا لكم المغرب ، فكيف يصفو لي ، وأنا صنهاجيّ بربري؟ قتلتني يا مولانا بغير سيف ولا رمح ، فما زال به المعز حتى أجاب بشريطة أنّ المعز يولي القضاء والخراج لمن يراه ويختاره ، ويجعل الحيز لمن يثق به ، ويجعله قائما بين أيدي هؤلاء ، فمن استعصى عليهم يأمره هؤلاء به حتى يعمل به ما يجب ، ويكون الأمر لهم ويصير كالخادم بين أولئك ، فأحب المعز ما قال وشكره ، فلما انصرف قال أبو طالب بن القائم بأمر الله للمعز : يا مولانا ، وتثق بهذا القول من يوسف ، وإنه يقوم بوفاء ما ذكر ، فقال المعز : يا عمنا كم بين قول يوسف ، وقول جعفر ، فاعلم يا عمّ أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداء ، هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف ، وإذا تطاولت المدّة سينفرد بالأمر ، ولكن هذا أوّلا أحسن ، وأجود عند ذوي العقل ، وهو نهاية ما يفعله ، وكانت أم الأمراء قد وجهت من المغرب صبية لتباع بمصر ، فعرضها وكيلها في مصر للبيع ، وطلب فيها ألف دينار ، فحضر إليه في بعض الأيام امرأة شابة على حمار لتقلب الصبية ، فساومته ففيها ، وابتاعتها منه بستمائة دينار ، فإذا هي ابنة الإخشيد محمد بن طفج ، وقد بلغها خبر هذه الصبية.
فلما رأتها شغفتها حبا ، فاشترتها لتستمتع بها ، فعاد الوكيل إلى المغرب ، وحدّث المعز بذلك ، فأحضر الشيوخ ، وأمر الوكيل فقص عليهم خبر ابنة الإخشيد مع الصبية إلى آخره ، فقال المعز : يا إخواننا انهضوا إلى مصر ، فلن يحول بينكم وبينها شيء ، فإنّ القوم قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بنات الملوك فيهم تخرج بنفسها ، وتشتري جارية لتتمتع بها ، وما هذا إلّا من ضعف نفوس رجالهم ، وذهاب غيرتهم ، فانهضوا لمسيرنا إليهم ، فقالوا : السمع والطاعة ، فقال : خذوا في حوائجكم ، فنحن نقدّم الاختيار لمسيرنا إن شاء الله تعالى. وكان قيصر ، ومظفر الصقلبيان قد بلغا رتبة عظيمة عند المنصور والد المعز ، وكان المظفر يدل على المعز من أجل أنه علمه الخط في صغره ، فحرد عليه مرّة ، وولى فسمعه المعز يتكلم بكلمة صقلبية استراب منها ، ولقنها منه ، وأنفت نفسه من السؤال عن معناها ، فأخذ يحفظ اللغات ، فابتدأ بتعلم اللغة البربرية ، حتى أحكمها ، ثم تعلم الرومية والسودانية حتى أتقنهما ، ثم أخذ يتعلم الصقلبية ، فمرّت به تلك الكلمة ، فإذا هي سب قبيح ، فأمر بمظفر ، فقتل من أجل تلك الكلمة ، وبلغه أمر الحرب التي كانت بين بني حسن ، وبني جعفر بالحجاز ، حتى قتل من بني حسن أكثر ممن قتل من بني جعفر ، فأنفذ مالا ورجالا في السرّ ما زالوا بالطائفتين حتى اصطلحتا ، وتحمل الرجال عن كل منهما
__________________
(١) يرفع نسبه إلى حمير مؤسس الإمارة الصنهاجية بتونس كان في بدء أمره من قواد المعز الفاطمي وأبلى في إخضاع زناته في المغرب ثم ولاه المعز إفريقية ، توفي سنة ٣٧٣ ه ، الأعلام ج ٢ / ٧٤.