قال : وسميت القاهرة ، لأنها تقهر من شذّ عنها ، ورام مخالفة أميرها ، وقدّروا أن منها يملكون الأرض ، ويستولون على قهر الأمم ، وكانوا يظهرون ذلك ، ويتحدّثون به.
قال ابن سعيد : هذه المدينة اسمها أعظم منها ، وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته ، لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين ، وكان سلطانه ، قد عمّ جميع طول المغرب من أوّل الديار المصرية إلى البحر المحيط ، وخطب له في البحرين من جزيرة عند القرامطة ، وفي مكة والمدينة ، وبلاد اليمن ، وما جاورها ، وقد علت كلمته ، وسارت مسير الشمس في كل بلدة ، وهبت الريح في البرّ والبحر ، لا سيما ، وقد عاين مباني أبيه المنصور في مدينة المنصورية (١) التي إلى جانب القيروان ، وعاين المهدية (٢) مدينة جدّه عبيد الله المهديّ لكن الهمة السلطانية ظاهرة على قصور الخلفاء بالقاهرة ، وهي ناطقة إلى الآن بألسن الآثار ولله درّ القائل :
هم الملوك إذا أرادوا ذكرها |
|
من بعدهم فبألسن البنيان |
إن البناء إذا تعاظم شأنه |
|
أضحى يدل على عظيم الشأن |
واهتم من بعد الخلفاء المصريون بالزيادة في تلك القصور ، وقد عاينت فيها إيوانا يقولون : إنه بني على قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن ، وكان يجلس فيه خلفاؤهم ، ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبان عظيمة جليلة الآثار ، وأبصرت في قصورهم حيطانا عليها طاقات عديد من الكلس والجبس ، ذكر لي أنهم كانوا يجدّدون تبييضها في كل سنة ، والمكان المعروف في القاهرة ببين القصرين هو من الترتيب السلطانيّ ، لأنّ هناك ساحة متسعة للعسكر ، والمتفرّجين ما بين القصرين ، ولو كانت القاهرة عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية ، ولكن ذلك أمد قليل ، ثم تسير منه إلى أمد ضيق ، وتمرّ في ممرّ كدر حرج بين الدكاكين إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان ذلك ما تضيق منه الصدور ، وتسخن منه العيون ، ولقد عاينت يوما وزير الدولة ، وبين يديه أمراء الدولة ، وهو في موكب جليل ، ولقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة ، وقد سدّت جميع الطرق بين يدي الدكاكين ، ووقف الوزير وعظم الازدحام ، وكان في موضع طباخين والدخان في وجه الوزير ، وعلى ثيابه ، وقد كاد يهلك المشاة ، وكدت أهلك في جملتهم.
وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب ، والأزبال ، والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيقت مسلك الهواء والضوء بينهما ، ولم أر في جميع بلاد المغرب أسوأ
__________________
(١) المنصورية : مدينة بقرب القيروان من نواحي إفريقية استحدثها القائم بن المهدي الفاطمي سنة ٣٧٧ ه ثم صارت منزلا لهم. معجم البلدان ج ٥ / ٢١١.
(٢) المهدية : مدينة بإفريقية بينها وبين القيروان مرحلتان إلى الشمال منها وقد اختطها المهدي العبيدي.
معجم البلدان ج ٥ / ٢٣٠.