حالا منها في ذلك ، ولقد كنت إذا مشيت فيها بضيق صدري ، ويدركني وحشة عظيمة حتى أخرج إلى بين القصرين.
ومن عيوب القاهرة : أنها في أرض النيل الأعظم ، ويموت الإنسان فيها عطشا لبعدها عن مجرى النيل لئلا يصادرها ، ويأكل ديارها ، وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف : بالمقس ، وجوّها لا يبرح كدرا ، بما تثيره الأرجل من التراب الأسود ، وقد قلت فيها حين أكثر عليّ رفاقي من الحض على العود فيها :
يقولون سافر إلى القاهرة |
|
وما لي بها راحة ظاهره |
زحام وضيق وكرب وما |
|
تثير بها أرجل السائره |
وعند ما يقبل المسافر عليها ، يرى سورا أسود كدرا ، وجوّا مغبرّا ، فتنقبض نفسه ، ويفرّ أنسه ، وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة ، لا سيما أرض القرط والكتان فقلت :
سقى الله أرضا كلما زرت أرضها |
|
كساها وحلّاها بزينته القرط |
تجلت عروسا والمياه عقودها |
|
وفي كل قطر من جوانبها قرط |
وفيها خليج لا يزال يضعف بين خضرتها حتى يصير كما قال الرصافي :
ما زالت الأنحال تأخذه |
|
حتى غدا كذؤابة النجم |
وقلت في نوّار الكتان على جانبي هذا الخليج :
انظر إلى النهر والكتان يرمقه |
|
من جانبيه بأجفان لها حدق |
رأته سيفا عليه للصبا شطب |
|
فقابلته بأحداق بها أرق |
وأصبحت في يد الأرواح تنسجها |
|
حتى غدت حلقا من فوقها حلق |
فقم وزرها ووجه الأفق متضح |
|
أو عند صفرته إن كنت تغتبق |
وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر ، والمناظرة فوقها كالنجوم ، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل ، وتسرج أصحاب المناظر على قدر همتهم ، وقدرتهم فيكون بذلك لها منظر عجيب وفيها أقول :
انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت |
|
بها المناظر كالأهداب للبصر |
كأنما هي والأبصار ترمقها |
|
كواكب قد أداروها على القمر |
ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوّ فقلت :