انتهى. وفيه تحامل كثير. وقال زكي الدين الحسين من رسالة كتبها من مصر في شهر رجب سنة اثنتين وستين وسبعمائة إلى أخيه ، وهو بدمشق يتشوّق إليها ، ويذكر ما فيها من المواضع ، والمنتزهات ، ويذم من مصر بقوله : فكيف يبقى لمن حلّ في جنة النعيم ورياضها ، ويرتع في ميادين المسرّات ، وغياضها تلفت إلى من سلمته يد الأقدار إلى أرض ليست بذات قرار ، وبدّلوا بجنتهم ذات البان المتفاوح ، والورق المتصادح ، والنشر المتقادح ، والماء المطلق المسلسل ، والنسيم الصحيح العليل جنتين ذواتي أكل خمط (١) ، وأثل وشيء من سدر قليل ، وتقصدتهم يد القضاء ، فأخذتهم بالبأساء والضرّاء ، وأوقعتهم بمصر وشموسها ، وحميمها وغمومها ، وحزونها ، ووعورها ، وحرورها ، وزفيرها ، وسعيرها ، وكيمانها ، ونيرانها ، وسودانها ، وفلاحيها ، وملاحيها ، ومشاربها ، ومساربها ، ومسالكها ، ومهالكها ، وصحناتها ، وعصفورها ، وبوريها ، وصقورها ، ومخاوف نوروها ، وحرارة تموزها ، ودارس طلولها ، ورائس أسطولها ، وتعكر مائها ، وتكدّر هوائها ، فلو تراهم في أرجائها القصوى كالأباعر الهمل ، وهم يصطخرون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل.
فأجابه من دمشق بكتاب من جملته على لسان دمشق ، كأنها تخاطبه : ويا أيها الولد العزيز كيف سمحت فطرتك السليمة ، ومروءتك الكريمة ، وسيرتك المستقيمة ، وصبرك المحافظ ، ودينك المراقب الملاحظ بذم من جنيت نعمها ، وسكنت حرمها ، وقلت مصر وشموسها ، وسقت عليها القول من كل جانب ، واستعرت لها التكدير حتى في المشارب والمسارب ، وهلا ذكرتها ، وقد باكرها نيل نيل النعيم ، بمغيثة بليل النسيم بكأس من تسنيمه ، وطما البحر عليها زاخرا ، فأغناها عن بكاء السحاب وتجهيمه ، وعمّ معظم أرضها ، وعبّ عبابه في طولها وعرضها ، حتى كاد يعلو رفيع قصورها ، ويتسوّر بسورته شامخ سورها ، ومع ذا لا تراه جسورا على ضعاف جسورها ، وقد طبق التهائم والأنجاد ، وغرّق الآكام والوهاد ، وعلا أعلى الصعيد والصعاد ، وأعاد البرّ سلطانه بحرا بالازدياد ، فإذا ارتوى أوام (٢) أكباد البلاد ، وروى السهل والوعر والهضاب والوهاد ، وذهب إملاق الأرض بكل ملقة وخليج ، وانجاب عنها فاهتزت وربت وأنبتت من كلزوج بهيج ، بدت روضة نضرة بأملاق مقطعة ، كزمرّذة أخضر بلآل مرصعة ، فكم من غدير مستدير كبدر منير ، ودقيق مستطيل كسيف صقيل ، وكم من قليب قلاب بماء كجلاب ، وكم من عظيم بركة حرّكها النسيم بلطفه ، وطيبها عبير عنبرها ، فضمّخها بكفه ، وزهت بزهو نيلوفرها ، فعرّفها بعرفه ، وكم ترى من ملقة لبقة ، عليها عيون النرجس محدّقة ، كصحن خدّ عروس منمقة ، والنوّار
__________________
(١) خمط : طيب الرائحة.
(٢) الأوام : العطش أو حرّه.