فكان يفرّق أصحابه ليرى العدوّ أنهم أكثر مما هم ، فلما انتهى إلى الخندق نادوه أن قد رأينا ما صنعت ، وإنما معك من أصحابك كذا وكذا ، فلم يخطئوا برجل واحد ، فأقام عمرو على ذلك أياما يغدو في السحر ، فيصف أصحابه على أفواه الخندق عليهم السلاح ، فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير بن العوام ، أنه قدم في اثني عشر ألفا ، فتلقاه عمرو ، ثم أقبلا يسيران ، ثم لم يلبث الزبير أن ركب ، ثم طاف بالخندق ، ثم فرّق الرجال حول الخندق ، وألح عمرو على القصر ، ووضع عليه المنجنيق ، ودخل عمرو إلى صاحب الحصن ، فتناظرا في شيء مما هم فيه ، فقال عمرو : أخرج وأستشير أصحابي ، وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب إذا مرّ به عمرو أن يلقي عليه صخرة فيقتله ، فمرّ عمرو ، وهو يريد الخروج برجل من العرب ، فقال له : قد دخلت ، فانظر كيف تخرج؟ فرجع عمرو إلى صاحب الحصن ، فقال له : إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت ، فقال العلج في نفسه : قتل جماعة أحب إليّ من قتل واحد.
وأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره به من قتل عمرو أن لا يتعرّض له ، رجاء أن يأتيه بأصحابه ، فيقتلهم ، فخرج عمرو وعبادة بن الصامت في ناحية يصلي وفرسه عنده ، فرآه قوم من الرّوم ، فخرجوا إليه ، وعليهم حلية وبزة ، فلما دنوا منه سلّم من صلاته ، ووثب على فرسه ، ثم حمل عليهم ، فلما رأوه ولّوا راجعين فأتبعهم ، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ، ليشغلوه بذلك عن طلبهم ، وهو لا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن ، ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة ، فرجع ، ولم يتعرّض لشيء مما طرحوا من متاعهم حتى رجع إلى موضعه الذي كان به ، فاستقبل الصلاة ، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه ، فلما أبطأ الفتح على عمرو قال الزبير : إني أهب الله نفسي ، أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين ، فوضع سلّما إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ، ثم صعد ، فأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا ، فما شعروا إلّا والزبير على رأس الحسن يكبر ، ومعه السيف ، وتحامل الناس على السلم ، حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر ، وكبر الزبير ، فكبرت الناس معه ، وأجابهم المسلمون من خارج ، فلم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعا ، فهربوا ، وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ، ففتحوه ، واقتحم المسلمون الحصن ، فخاف المقوقس على نفسه ، ومن معه.
فحينئذ سأل عمرو بن العاص الصلح ، ودعاه إليه على أن يفرض للعرب على القبط دينارين على كل رجل منهم ، فأجابه عمرو إلى ذلك وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر ، قال : وقد سمعت في فتح القصر وجها آخر ، هو أنّ المسلمين لما حصروا باب اليون كان به جماعة من الروم ، وأكابر القبط ورؤسائهم ، وعليهم المقوقس ، فقاتلوهم شهرا ، فلما رأى القوم الجدّ من العرب على فتحه والحرص ، ورأوا من صبرهم على القتال ، ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم ، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر