والإعتساف. لما رفع مصطفى بن إسماعيل من حضيض الأرض إلى عنان السماء. ومن دائرة السوقة إلى منصب الوزراء ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ولما كان الوزير المذكور يحس من نفسه بعدم اللياقة لمركزه ، كان دائما متوقعا الشر من كل مقتدر على تفهيم الباي بحقيقة حاله وسوء أعماله ، ولذلك فإن رستان علم أن لا شيء يقوده غير الإرهاب فطلب عزله إرهابا له فسهل عليه قياده من ذلك الحين فصار في يده كالميت في يد غاسله ، وقد أسرع الوزير بترضية القنصل ترضية رسميّة على الإعتداء الذي حصل منه فداء لمركزه واستقرّ الرأي على تشكيل لجنة للتحكيم تحت رئاسة قاض فرنساوي يكون فيها عضوان تونسيان وعضوان فرنساويان تنظر في جميع مدعيّات الطرفين وتصدر حكمها فيها فكان صاحب الترجمة أحد ذينك العضوين التونسيين ، وقد ناضل عن حقوق حكومته بجميع قواه وبلغ به تعب الفكر والبدن منتهاه حتى عاد إليه المرض بعد أن كاد يشفى منه وقد أوصاه الحكماء الذين باشروا معالجته في باريس وفي مقدّمتهم شاركو الشهير بأن يقلل ما أمكن من الإشتغال بالفكر ويتباعد عن الإنفعالات النفسانيّة إذ إن مرضه عصبي واقع في الأعصاب الواصلة بين المعدة والقلب مع ضعف شديد في الدم تطرأ عليه أدوار غريبة في الوجع والألم التزم لتسكينها بتعاطي المرفين وهو روح الأفيون ، وقد رجع من باريس آخر مرة وكاد يبطل استعماله بالمرة بل بقي عدّة أشهر لا يستعمله أصلا غير أن مسألة صانسي وما رآه فيها من حيف الأجنبي لاهتضام حقوق البلاد والتلاعب باستقلالها أعاد إليه المرض كله بأشد مما كان عليه وقد صدر الحكم بمحقوقيّة الحكومة التونسيّة كما هي العادة في جميع المسائل الّتي تقع من هذا القبيل في البلاد الشرقيّة في مثل هذه الأوقات.
وفي تلك الأثناء أنهى تنظيم المستشفى الجديد المسمى بالصادقي وهو على قسمين : أحدهما : مجاني للفقراء يسع مائة مريض. والآخر : للموسرين بأجرة معينة زهيدة ، وافتتحه الأمير بنفسه في موكب حافل حضره في يوم ١٠ فبراير سنة ١٨٧٩ (١٨ صفر سنة ١٢٩٦ ه) وأعلن الوزير عن لسان الحكومة بحسن مساعي صاحب الترجمة في تنظيم هذا المستشفى بقوله في خطاب ألقاه على مسامع الأمير في ذلك الاحتفال وهو :
«بمقتضى الاذن العلي وعناية سيدنا أدام الله تعالى بقاءه بمصالح بلاده وقع انجاز هذه المأثرة الجميلة التي هي إحدى مآثر الحضرة العليّة ، وهي هذا المستشفى الصادقي الذي شرفه سيدنا أيده الله تعالى بالحضور فيه هذا اليوم ، وقد اعتنى الشيخ السيد محمّد بيرم ببذل الجهد في انجازه وترتيبه على الكيفيّة المشاهدة بما نرجو من الله تعالى أن يحل ذلك من سيدنا محل الاستحسان».
فأجاب الأمير بالشكر والثناء وأهدى إلى صاحب الترجمة في ذلك اليوم علبة مرصعة ذات قيمة وافرة مكتوب عليها اسمه بالأحجار الكريمة. وفي أواسط تلك السنة تطاول أحد