النفس التي هي محل الإعتقاد ، والقيام بجميع التكاليف فغلب ترجيحها كما صرحوا به في جواز التيمم لخوف المرض ، في أن ذلك ليس تقديما للنفس على الدين بل من باب تقديم أغلب الدين على بعضه ، لأن الإنسان إذا سلم أقام الطهر والصلوات الكثيرة وغيرها من التكاليف ، بخلاف ما إذا هلك فتسقط بموته جميع التكاليف المتعلقة بذاته فلا يسوغ له أن يسعى في إبطاله تكاليف كثيرة لإقامة عبادة واحدة ، فهو حينئذ من باب أخف الضررين كما تقدم.
واعلم أن للعبد توقفا شديدا في دعوى جواز مسألة الكتابة بالدم لحفظ النفس من الرعاف الخ ، وبيانه أن صاحب «الفصول العمادية» (١) وغيره ممن نقل عنهم الشيخ بيرم الثاني في كتابه «حسن النبا في جواز التحصن من الوبا» ، قد صرحوا بأن تعلق الأسباب بمسبباتها على ثلاث مراتب.
أحدها : التعلق القطعي ، وهو ما لا يتخلف فيه المسبب عن السبب إلّا على وجه خرق العادة كالشبع للأكل والريّ للشرب.
وثانيها : الظنيّ ، وهو ما يكثر فيه ارتباط المسبب بالسبب وقد يتخلف نادرا ، ومثلوا له بالأدوية مع الأمراض.
وثالثها : الوهمي ، وهو ما لا يرتبط فيه المسبب بالسبب إلا نادرا ومثلوا له بالكي والرقي مجمعين على ذلك.
وغاية ما اختلفوا فيه هو أن تعاطي القسم الثالث هل هو مخالف للتوكل أم لا؟ واحتج صاحب «حسن النبأ» لكونه غير مخالف للتوكل رادا على صاحب الفصول بثبوت الرقيا من النبي صلىاللهعليهوسلم وكذلك الكي. فليراجع ما أطال به هناك ، فأنت ترى أطباقهم على جعل الرقيا من الموهوم وما تقدم من الكتابة بالدم للراعف ليست هي إلا رقيا ، فكيف ينطبق عليها شرط جواز استعمال المحرم وهو تعينه للشفاء؟ وأين التعين من الوهم؟ وكيف يقدم على أمر محرم بإجماع لأمر موهوم؟
فعلى الآخذ للأحكام الشرعية التثبت وعدم الإغترار ، ولهذا صعبت درجة المفتي لكي لا يضل ويضل بغير علم ولا ينفعه مجرد وجود المسائل في كتب بعض المتأخرين ، إذ كثيرا ما زلقت الأقدام من بعضهم فينقلها عنه غيره كأنها المذهب الذي عنه لا يذهب ، والله يحفظ المسلمين من مزالق الشبهات.
وكان منشأ ذلك القول هو ما قاله صاحب «النهاية» في مبحث «جواز التداوي بالمحرم إذا تيقن فيه الشفاء» وساق لذلك مثالا ، وهو : جواز كتابة الفاتحة بالدم للراعف على جبينه وأنفه ، لكنه قيد ذلك بحصول العلم الذي هو اليقين وذلك على معرض التمثيل بدليل عطفه
__________________
(١) هو جمال الدين بن عماد الدين الحنفي. انظر كشف الظنون ٢ / ١٢٧٠.