هذا وقد خرج صاحب الترجمة من القطر التونسي وترك وظائفه فيه ولم يكسب منها شيئا مع أنه كان يسهل عليه كثيرا في تلك الأوقات الدخول في أبواب الكسب بلا معارض ولا ممانع كما جرت به العادة عند الكثير محافظة منه على الاستقامة واحترام الحق ، لا سيما والأوقاف لم تكن في بادىء أمرها مضبوطة ولا معلومة فأمرها في الواقع موكول لذمته وطهارة نفسه فكان كثيرا ما يلتزم لبيع أملاكه وعقاراته لتسديد مصاريفه الواسعة حتّى أن مصاريف سفره الأخير لباريس حيث توجه بمأموريّة من طرف الوزير التونسي تحمل بها من عنده وبلغت أربعة عشر ألف فرنك مع أن الوزير المذكور وعده بتسديدها ولم يوف بعد.
ولما استقرت إقامته في دار الخلافة وجد المرحوم خير الدين باشا مهتمّا بتقديم تقرير بشأن الإصلاحات المقتضي إدخالها في نظام الدولة العليّة لزيادة سطوتها وتأييد عظمتها على حسب ما يفتكر ، وقد انهى التقرير المذكور بالفعل غير إنه لم يحز محل القبول لأنه لم يكن مطابقا في بعض وجوهه لاحكام الشريعة الغراء فأخذ الشيخ بيرم في تطبيقه عليها ، ولما انتهى منه حصل تقديمه للحضرة السلطانيّة ومن ذلك الحين شملته الأنظار الشاهانيّة بعين ملاحظتها لدقة علومه واتساع معارفه ثم أنه تفرّغ لتدوين «صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار والأقطار» وتمم الجزئين الأولين منه ، وكان يقصد تقديمه للحضرة المعظمة المشار إليها عند إتمامه خصوصا وهو شارع في جعل خاتمة الكتاب المذكور على نحو مقدمتي : «ابن خلدون» و «أقوم المسالك» ، أي أنها تتضمن ما يقتضيه الحال لإصلاح الأحوال في البلاد الإسلاميّة لعود عصر شبابها إليها كما هو غرضه الوحيد الذي يدأب له منذ زمان ويتحمل في سبيله كل مشقة وعناء ، وقد تحسنت صحته إذ ذاك واستراح من اتعاب المرض وكاد أن يشفى منه تماما حتى أن استعماله المرفين قل بحيث بلغ درجة تقرب العدم وبينما هو على ذلك الحال متنعم البال منتظرا الرحمة من الله بانقاذ بلاده من حكومتها الجائرة إذ ذاك وقد اعتذر عن العمل بمقترحات اقترحها عليه الموسيو «فورنييه» سفير فرنسا في ذلك الحين حاصلها الرجوع إلى تونس تحت كنف فرنسا أو الإقامة بالجزائر أو بباريس إذ فاجأته الأخبار بزحف العساكر الفرنسويّة على الحدود التونسيّة وابتداء حركة «خمير» المخترعة.
نعم إن الشيخ بيرم كان عالما بما ستؤول إليه البلاد من السقوط في يد فرنسا ولكنه لم يكن ينتظر حصول ذلك في العصر الحاضر وكانت في تلك الأثناء ترد عليه مكاتبات من بعض أحبائه التونسيين وغيرهم بما يحصل في تونس من تلاعب الوزير بين قنصلي فرنسا وإيطاليا وإرضائه أحدهما يوما واغضابه الآخر يوما ثانيا ، وكان الشيخ ينصح مكاتيبه ومحبيه بتجنب هذه الألعاب المضرة خصوصا تظاهر الوزير بالميل الفجائي لايطاليا واغضائه مرة واحدة عن فرنسا حتى إنه أهان كرامتها لأن ذلك لا تؤمن عواقبه ، ولم يمض على ذلك شهر حتى أيدت الوقائع ما كان يخشاه وليس من غرضنا تكرار كتابة ما حصل في ذلك العهد لدخول فرنسا إلى تونس وأعلان حمايتها عليها ، إذ أن ذلك تكفلت به كتابات غيرنا ولكنا نقول : إن الحضرة السلطانيّة أصدرت أمرها لخير الدين باشا ولصاحب الترجمة