القسطنطينيّة وعرج على جنيفا من بلاد سويسره حيث أبقى كاتب هذه الأحرف في إحدى مدارسها المعتبرة ، ثم قصد ويانه وبلاد المجر والصرب ورومانيا حيث أقام ليلة في بخارست ومنها توجه إلى وارنه من أعمال البلغار ومنها ركب الباخرة قاصدا دار الخلافة حيث لم تتصل السكة الحديد إذ ذاك بينها وبين أوروبا.
وقد قاسى في هذه السفرة آلام البرد واتعاب السفر الذي حق فيه القول بأنه قطعة من العذاب خصوصا ولم يكن صاحب الترجمة يتكلم بلغة أجنبيّة إلّا بعض كلمات فرنساويّة وليس في النمسا ولا في البلاد الّتي عرج عليها كثيرا ممن يتكلم تلك اللغة وكان يسرع المسير للوصول قبل عائلته إلى الأستانة لتحضير محل لنزولها ، وقد وصل إليها قبل العائلة بنحو يومين أو ثلاثة وبعد أن استراحوا قليلا فاجأهم ذوو الدسائس والأغراض بوشايات أوغرت الصدور على صاحب الترجمة. وكادت أن توقعه فيما لا تحمد عقباه وكان مبنى تلك الوشايات على حصول الحركة العرابيّة بمصر أثناء وجود الشيخ بيرم في أوروبا فبنى عليها أصحاب الأغراض أقوالا فاسدة ومزاعم بعيدة منشأها الحقيقي حزازات في صدورهم من الحسد له وبغية الإيقاع بأرباب المناصب من أصدقائه وأحبائه فأرادوا الإنتقام منهم بالإساءة إلى صاحبهم وجعله محل تهمة يستخرجون منها ما يروج غرضهم في النكاية باولئك الرجال فالتزم هذا المهاجر بدينه إلى دار الخلافة الإسلاميّة أن ينزوي في بيته ويلازمه مدة تقرب من الستة أشهر لا يخرج منه إلا لقضاء الضروري أو أداء فرض عين كصلاة الجمعة وقد رأى في تلك الأثناء من تودّد الهمام الأبر الصالح الورع الشيخ محمّد ظافر أفندي المدني وتلطف الفريق الغيور الحاج حسن باشا محافظ مركز بشكطاش محل سكنه وكلاهما من أقرب المقرّبين للذات الشاهانيّة المخلصين لها في السر والعلانيّة ما أطلق لسانه بالشكر وقلبه بالدعاء الصالح لهما.
والحق يقال أن الحضرة الخاقانيّة لم تفتر عن شمول صاحب الترجمة بعين رعايتها وكثيرا ما كان أمير المؤمنين نصر الله به الدين يظهر علائم رضائه وصفائه عليه حتى أنه لما أراد يهدي إلى أمبراطور المانيا فريدريك الثالث وكان إذ ذاك ولي العهد بعض جياد الخيل أمر أحد الأعوان أن يتوجه إلى الشيخ بيرم ليكتب رسالة عربيّة يصحبها المأمور السلطاني معه عند ذهابه إلى برلين ليقدمها مع الخيل إلى الأمير المشار إليه وكان ذلك بعد صلاة يوم الجمعة الثالث والعشرين من رجب سنة ١٢٩٩ ه وكان يطلق عليه عند ذكره من ألفاظ العناية ما يستدل به على قرب منزلته من خليفة المسلمين وبمجرد وصول جلالته إلى قصره الفاخر بيلدز بعد صدور ذلك الأمر جاءه الرسول بالكتابة المطلوبة فسرّ بها كثيرا واثنى على كاتبها. وتلك الرسالة هي :
«الحمد لله بديع الخلق كما شاء وأراد. جاعل الصافنات الجياد. عدة مستمرة من أهم آلات الإستعداد. وصلاته وسلامه على رسوله متمم مكارم الأخلاق. الحاث على الفروسيّة