من الإنفعالات النفسانيّة المتسببة عن دسائس ذوي الأغراض السابق شرحها الّتي لا يكاد يخلو منها من كان له شأن بين الناس أو فضل يميزه بين أقرانه ، والمعالجة والعيال يلزمها الكثير من المال فباع صاحب الترجمة جميع أملاكه بتونس وصار يصرف من ثمنها في حاجياته وعوائده الّتي لم يغير منها شيئا بحيث رأى نفسه في تأخر مالي مستمر لا يأمن معه من الوقوع في مخالب الفقر ، وهو لم يحسن من العمل إلّا مباشرة عقاراته والتفرغ للأشغال العلميّة. وكان بعض كبار أصدقائه ينفره من سائر الوظائف العادية لاعداده إلى وظيفة مخصوصة تليق بعلومه وما زال منتظرا حتى ضاق لذلك ذرعا وزاد عليه اشتداد المرض العصبي إذ وجد عاملا لتحريكه قويّا وهو الانفعال النفساني المستمر فنظر في أمره فلم يجد من البلاد الإسلاميّة الّتي يمكنه الإقامة فيها براحة بال إلّا القطر المصري وهو مع حرارته الّتي يأباها مزاج صاحب الترجمة إلّا إنه أوفق من غيره من البلاد الأخرى ، أما الولايات العثمانيّة فقد أشار عليه بعض المطلعين على الأحوال على أن طلبه التوجه إليها لا يحوز محل القبول خصوصا وهو لم يكن له ميل إلّا للتوجه إلى المدينة المنوّرة للمجاورة أو إلى الشام ويمنعه عن الإقامة في الحجاز احتياجه المستمر للحكماء والعلاجات وهما شيئان مفقودان تقريبا من تلك الجهات المباركة ، فاستخار الله في القدوم إلى مصر وساعدته المقادير بالحصول على مكاتيب توصية لبعض ذوي النفوذ في هذه البلاد فأراد طلب الرخصة للقدوم إليها ولكنه استشعر أن طلب الإذن للتوجه إليها ربما لا يحوز قبولا خصوصا وأنه تعذر عليه وجود من يبلغ الحضرة السلطانيّة تفصيل أمره وشكوى حاله على الوجه الحقيقي ، وإلّا فإن احترام الخليفة لمثله من علماء المسلمين كان يدفع شكواه ويرفع عنه ألم معيشته ولكن دون الملوك من عقبات الأشغال ما يمنعهم عن الوقوف أحيانا على مثل هذه الأحوال فإذا فقد الناصح الأمين الذي يتيقظ لملافاة هذه الأمور بحسن تبليغها إلى مقام الخلافة حصل الإهمال الذي وقع فيه صاحب الترجمة وأمثاله ، فالتزم التمحل بطلب العودة إلى الوطن وقارن هذا الطلب الإجابة إذ كاتبه علي رضا باشا باشكاتب المابين الهمايوني بهذه البطاقة العربيّة وهذا نصها بالحرف الواحد بخط يده :
«العالم الفاضل والأديب الكامل محمّد أفندي بيرم سلمه الله.
بعد التحيّة الوافية نبدي لكم أننا عرضنا مادة العزيمة إلى بلدتكم فصدرت الإرادة السنيّة السلطانيّة على عزيمتكم إلى ذلك الطرف إن شاء الله تكون مصحوبا بالسلامة ونروم منكم أن لا تنسونا من دعائكم الصالح في السفر والإقامة ودمتم في ٢١ ذي الحجة سنة ١٣٠١ ه.»
(علي رضا)
وممّا يذكر هنا مقرونا بمزيد الأسف أن القسطنطينيّة العظمى تشتمل على نحو المليون نفس من السكان من أجناس مختلفة أقلهم أبناء العرب أو المنتسبون إليهم ومع ذلك لا ترى أشد منهم تهافتا على الإيقاع فيما بينهم فبينما ترى الروم والأرمن واليهود يعاضدون بعضهم