بعضا ويسعون لبني جنسهم في الخير بحيث يصدق عليهم أنهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ترى أولاد العرب المسلمين ينتحلون ويتلهفون على اختلاق الأسباب وإيجادها لإبعاد بني جنسهم عن دار الخلافة وتنفير قلوبهم منها ولله في خلقه آيات. فقد راجت فيهم سوق التحاسد والتباغض والتنافر والتشاحن حتّى لا يكاد يخلو حديث من أحاديثهم أو حركة من حركاتهم إلّا في إيذاء بعضهم وإيقاع السوء بأنفسهم والتخاذل فيما بينهم لا فرق في ذلك بين الكبير والصغير والعظيم والحقير بل الداء واحد في الكل إلّا من وفق الله ولا شك أن هذا من سوء حظ الإسلام الذي كان ينبغي أن يصرفوا له أوقاتهم في خدمته بما في يدهم من القدرة على نفعه نسأل الله أن يرفع من بينهم آفة الدسائس الّتي يشوشون بها على أنفسهم وعلى بلادهم ويسقطون بها سائر الأمة العربيّة في أعين الأمة التركيّة.
وقد غادر الشيخ مركز الخلافة والعين مغرورقة بالدمع والحشاء ممتلىء بالأسى والصدر مفعم بالأسف ليس ذلك لمنصب فارقه أو لرفاهة عيش زايلها أو لطمع في شيء من نعيم الدنيا الزايل وعيشها الفاني وإنما كان يتحرق فوءاده لما كان يرى عليه الأمة الإسلاميّة من الإنحلال والأخذ في أسباب الضعف وكيف أن بلاده وقعت أولا في يد الأجنبي وخرج لأجل ذلك مشتتا بعائلته في البلاد ليسكن بها بلدة إسلاميّة فلم ير أمامه مكانا هو أولى أن يقصد لهذا الغرض وأليق بعالم مسلم مثله من أولاد نقباء الأشراف أن يقيم بعائلته فيه سوى دار الخلافة ، وعلل النفس بأن ما يراه هناك من صولة الإسلام وتشييد الدين واستقامة أمور المسلمين واجتهاد أمير المؤمنين ومن حوله من خاصته وحاشيته ورجاله لإنقاذ الإسلام وأهله مما سيسلي مصابه بفقد بلاده ومنّى النفس بأنه لا ييأس على ضعفه وعجزه من القيام بخدمة تفيد الإسلام أو نصيحة تشيد الدين أو اشتراك في عمل يجمع به كلمة المسلمين أو ما يماثل ذلك ممّا يجب على كل فرد من المسلمين القيام به وخصوصا من كان من طائفة العلماء فرأى لسوء الحظ من تلك الدسائس ودنايا السعايات ومسابقة الوشاة أضرارا بكل من كان مثله على رأيه حتى يخلو الجوّ لأولئك المسابقين ما اضطره إلى مبارحة دار الإسلام للتشتت مرة أخرى في البلاد بعائلته بعد أن يئس من العمل في حقه بمقتضى الآية الشريفة (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] والمرحوم يمت بحبل النسب إلى البيت الطاهر النبوي من جهة ويتصل من الجهة الأخرى إلى مجاهد في سبيل خدمة الدولة العليّة أراق دمه في افتتاح البلاد التونسيّة ، ولم تزل أعقابه تتوارث الولاء والإخلاص والصداقة المتينة للدولة العليّة في كل زمان ومكان حتّى أنه لما أهدى السلطان عبد المجيد كركا من السمور الفاخر من ملبوساته الذاتيّة إلى أمير تونس أحمد باشا لم ير الأمير المشار إليه أليق بلبسه من الشيخ بيرم الرابع فأعطاه أياه ولم يزل محفوظا يتبرك به في بيت بيرم بتونس وصار لبس الكرك مزيّة لهم لم يقلدهم فيها سواهم ، وقد اكتفى الشيخ الرابع بذلك عن قبول نشان الافتخار التونسي لما عرضه الأمير عليه واتبعه في ذلك صاحب الترجمة أيضا سنة ١٢٩٥ ه إذ صارت العادة في تونس أن