الألمانيّة الّتي كانت ضعيفة ضئيلة بتفرقها ممالك صغيرة يسهل على الطامع ابتلاعها كما حصل مرارا ، فلما اتحدت جميع المقاطعات الألمانيّة على النمط الذي نراه الآن بمملكة بروسيا أصبحت أعظم الممالك شأنا وأشدها قوة ، وصارت مملكة بروسيا الّتي كانت تحت رحمة الطامع لضعفها وانفرادها أقوى الممالك باتحادها مع بقيّة الممالك الألمانيّة ، وقد كتب المرحوم في هذا الباب كلاما طويلا مستشهدا فيه بالشواهد الدينيّة والتاريخيّة ، كقول أحد مشايخ اسلام الاستانة الأقدمين عند تحسينه هذا المشروع لمن كان يعارضه : «إن الأليق بمجد السلطان وفخر الدولة أن يكون السلطان سلطان السلاطين لا سلطان الولاة». وربما أدخلناه في ضمن ما سننشره من بعض كتاباته الّتي تركها عند الفرصة.
وقد خرج الشيخ على تلك الحال يقلب طرفه في البلاد لعله يجد بلدة اسلاميّة يشد إليها رحله فلم يجد من بلاد المسلمين بلدة يطمئن فيها الساكن على نفسه وعرضه ولا يكون عرضة لمثل تلك الدسائس إلّا البلاد المصريّة ، وإن كان دمعه ليجري أسفا على تلك البلاد أيضا الّتي أصابها ما أصاب غيرها من سيطرة الأجنبي عليها ، ولكن رب ضار نافع وبعض الشر أهون من بعض ؛ وقد أنكر عليه المتشدقون عمله هذا وقدومه على مصر في حالة وجود الانكليز وتضارب الأحوال فيها غير أنه كان يجيب على ذلك : «بأن لا حق لأحد في الاعتراض عليّ إذ أن الدولة رضيت لي الاقامة في تونس تحت حماية فرنسا حسب منطوق الارادة السنيّة المسطرة أعلاه ، وتونس انسلخت بالمرة عن الممالك العثمانيّة ولا أثر لسلطة الدولة أو المسلمين فيها ، أما مصر فإنه مع وجود الانكليز فيها فإنها لم تزل ولاية من ولايات الدولة وسيطرة الحكومة المحليّة فيها قائمة ، وعلى فرض المساواة في المعاملة لا قدّر الله فلا فرق بين الانكليز والفرنسيس».
وقد انتقل المرحوم بعائلته إلى مصر معرجا في طريقه على بلاد اليونان وذلك في المحرم سنة ١٣٠٢ ه (نوقمبر سنة ١٨٨٤) أي بعد الاحتلال الانكليزي بسنتين وشهرين ، ولما استوطن بالقاهرة هنأه حضرة المصقع البليغ الشيخ حمزة أفندي فتح الله بهذين البيتين البديعين :
لئن أشرقت في الشرق مصر ببيرم |
|
وأضحت به تلك الكنانة تونس |
فكم شاد مع آبائه من مكارم |
|
أضاءت بها في الغرب من قبل تونس |
وبعد أن استراح أيّاما قابل الجناب الخديوي التوفيقي المرحوم فأظهر له مزيد العناية وأنزله منزلة الثقة الأمين فحكى له سموّه جميع ما جرى في الثورة العسكريّة وتفاصيلها وكل ما يتعلق بما قاساه فيها وختم كلامه بقوله : «إنني ذكرت لكم كل هذا لتتأكدوا من صداقتي لكم». ثم أظهر له من علائم الاكرام ما جعله دائم الشكر له ، ومن ذلك أنه أمر بأن تكون مصاريف الشيخ على نفقة الحكومة كما كان في ضيافة مولانا السلطان ، وفي ٢٥ ربيع الأول من تلك السنة أصدر جريدة «الاعلام» وهي جريدة علميّة سياسيّة يوميّة غير أن صحة