صاحب الترجمة وقلة اختباره بالقطر المصري لم تساعداه على توالي إصدارها يوميّة فجعلها تظهر ثلاث مرات في الاسبوع ثم صارت أسبوعيّة ، واستمرّت كذلك مدة طويلة بحيث أن أول عدد منها صدر في التاريخ المذكور وآخر عدد وهو ٢٦٩ صدر في غرة جمادى الأولى سنة ١٣٠٦ ه ثم احتجبت الجريدة المذكورة عن الظهور بتولي صاحبها خطة القضاء في محكمة مصر الابتدائيّة الأهليّة ، وكان في نيته عند تأسيسها مع فتح مطبعة مخصوصة به أن يشغل نفسه بتحريرها وبطبع الكتب المفيدة طلبا لنفع العموم بما اكتسبه من الاختبار بالتجول في البلدان وبما يعلمه من العلوم الشرعيّة الاسلاميّة وتطبيقها على الأحوال السياسيّة الّتي ينتج عنها تحرير البلاد وانتظام أمورها ، كما كانت تتولع به نفسه منذ القديم حتى قال خير الدين باشا عن هذه الجريدة : إنها لا تلبث أن تكون «تيمس العرب».
ودفعه إلى ذلك أيضا ما كانت عليه سجيته من حب الاشتغال بالعلوم وفن التحرير والانشاء وما يتسع هذا الغرض إلّا في مثل الاشتغال بطبع الكتب وانشاء الصحف ، ولكن قد خاب جميع أمله إذ أن الجريدة لم تطل أيامها حتى رماها بعض الناس بأنها تحث على الانتماء للأجنبي وهو أمر لم تقله أبدا وغاية ما هنالك أنها كانت تحث على الاستفادة من الانكليز ما داموا موجودين في البلاد إذ أن معاكستهم وأمر البلاد والأمة جميعا في يدهم لا تحمد عقباها كما بينته التجربة بعد والذي ألجأه لانتهاج هذا المسلك ما قاساه من ظلم الاستبداد وما رآه من وجود عوامل محركة في مصر باغراء بعض الأجانب لتوغير صدور الناس على حكامهم إذ ذاك ، وخشي من دوام الحال على ذلك المنوال أن يأتي بالضرر المادي والمعنوي على الطائفة الاسلاميّة.
والحاصل أن كثيرا من الناس لم يقدروا عمله حق قدره ، هذا زيادة عن أن حال الجرائد في الشرق ليس هو على ما يشاهد في البلاد المرتقيّة في التمدن والحضارة بحيث أن الجرائد هنا لا تنجح إلّا إذا كان لها معضد قويّ ولم يتعوّد الشرق لغاية الآن أن ينمي شيئا ما لم تكن يد الحكام فيه ، والشيخ بيرم كان قليل المعرفة بالناس وأخلاقهم في مصر فلم يجن من جريدته ثمرة تذكر ثم أن الكتب الّتي طبعها تحمل بخسارة مصاريفها ولم يكسب منها شيئا وزد على ذلك أنه تربى في ترف وعزة نفس وهمة عالية ، ومن تكن هذه أخلاقه قلما ينجح في عمل تجاري ثم أن الحرّ أضر بصحته وزاد في تقهقرها فزاد في استعمال المرفين زيادة مفرطة حتى صار يستعمل نحو الغرام وكسور في اليوم وهو مقدار كاف لقتل عدة من الأنفس الغير المتعودة عليه فالتزم بعد سنتين ونصف من الاقامة بمصر أن يسافر إلى أوروبا وكان ذلك قريب احتفال ملكة انكلترا بمضي الخمسين سنة على توليها الملك.
فتوجه أولا إلى مدينة فلورنسا من أعمال ايطاليا لملاقاة صديقه المرحوم الجنرال حسين باشا التونسي حيث طلبه لتسوية شؤونه لما أعياه المرض فأوقف جملة من أملاكه