فأما الدليل على تحريم المسائل الثلاثة الأول فهو واضح لحرمة تلك الأعيان بالنص ولا حاجة إلى بسطه لمعلوميته للجميع ، ولما كانت أحكام الشرع كلها مناطة بحكمة فما أدركناه قلنا إنه معقول وما لا قلنا إنه تعبدي مع العلم بأنه فيه مصلحة لنا لتنزه الباري تعالى عن الإحتياج وإنما قصور عقولنا أوجب عدم الإدراك ، ومهما بحثنا ودققنا النظر إلا زدنا خبرة وبصارة بحكم الشرع ، فمن ذلك القبيل ما اكتشف بالنظارات المكبرة والتحليلات الكيمياوية من أن في لحم الخنزير حيوانات مضرة تورث أمراضا معضلة جدا ، وتلك الحيوانات ممتزجة في لحمه لا تموت بالطبخ ولا بغيره فإذا أكل لحم الخنزير سرت تلك الحيوانات في دم آكله وأضرته ، وأهالي أوروبا اكتشفوا ذلك واحتمى كثير منهم عن أكله (فنحمد الله) على شرعنا القويم : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤].
وأما دليل مسائل الكراهة الثمانية وهي : ٤ و ٥ و ٩ و ١٢ و ١٤ و ١٥ و ١٧ و ١٨ فأصل الحلية أما بأصل الإباحة في غير المذكى أو بإباحة طعامهم في المذكى على ما سيأتي ، وإنما أتت الكراهة من حيث الإشعار بالتعظيم لشعائر الكفر في المتخذ للأعياد وكل ما أشعر بذلك مكروه.
أما إذا قصد التعظيم فينتقل الحكم إلى الكفر والعياذ بالله ، والمشكوك داخل في ذلك كما سنوضحه والكراهة في المذكى المتخذ للهدية جاءت من الخلاف في حليتها حيث قال بعض العلماء : «إن النص دال على حلية طعامهم وما يتخذ للهدية لمسلم ليس بطعام لأهل الكتاب فلا يشتمله النص». وهذا القول وإن لم يكن هو المعتمد عند غالب العلماء لكن مراعاته توجب كراهة التنزيه ، على أن لقائل أن يقول : إن أكل رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الشاة المسمومة التي أهدتها له يهودية (١) دليل على الإباحة وشمول النص للهدية فتنتفي الكراهة وهو مقتضى إطلاق النصوص الفقهية عندنا كما يأتي.
وأما دليل الإباحة للمسائل السبعة وهي ٦ و ٧ و ٨ و ١٠ و ١١ و ١٣ و ١٦ فما كان منها من غير ما يذكى فهو مباح بأصل الإباحة العامة لأن كل ما لا تذكية له لا يتوقف على شيء مبيح سواء عدم المضرة والطهارة فهو من المسلم وغيره على السواء ، والأصل الطهارة حتى يتحقق النجاسة والشك في كونهم لا يتحرون من النجاسة غير عامل كما صرح به شيخ الإسلام بيرم الرابع في جواب سؤال عن جواز التيمم في بلاد الحرب للشك في مياههم وأوانيهم من حيث عدم اتقاء النجاسة فقال بعد ذكر حكم التيمم : وهذا كله مبني على نجاسة مياه أولئك القوم وأنى لنا بذلك ، ومجرد احتمال عدم التوقي غير مفض إلى الجزم بالنجاسة بل لا بد من تحققها أو غلبة الظن بها ، من ثم جاز تناول طعام أهل الكتاب واستعمال أوانيهم ولبس الثياب المجلوبة من بلاد الكفر بل المشتراة منهم بعد لبسهم لها
__________________
(١) الحديث في البخاري برقم [٢٦١٧] وفي سنن الدارمي بالمقدمة (١١) وفي المسند للإمام أحمد بن حنبل ٢ / ٤٥١ وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٨ / ٢٩١.