(الْمُنْخَنِقَةُ) [المائدة : ٣] ويكون حكم الآيتين خاصا بفعل المسلمين والإباحة عامة في طعام أهل الكتاب إذ لا فرق بين (ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) وما خنق فإذا أبيح الأول فيما يفعله أهل الكتاب كذلك الثاني وقد كنت رأيت رسالة لأحد أفاضل المالكية نص فيها على الحل وجلب النصوص من مذهبه بما ينثلج به الصدر سيما إذا كان عمل الخنق عندهم من قبيل الذكاة كما أخبر به كثير من علمائهم ، وأن المقصود التوصل إلى قتل الحيوان بأسهل قتلة للتوصل إلى أكله بدون فرق بين طاهر ونجس مستندين في ذلك لقول الإنجيل على زعمهم فلا مرية في الحلية على هاته المذاهب ، فإن قلت : كيف يسوغ تقليد الحنفي لغير مذهبه؟ قلت أما إن كان المقلد من أهل النظر في الأدلة وقلد الحنفي عن ترجيح برهان فهذا ربما يقال إنه لا يسوغ له ذلك ، وأما إذا كان من أهل التقليد البحت كما هو في أهل زماننا ، فقد نصوا على جميع الأئمة بالنسبة إليه سواء والعامي لا مذهب له وإنما مذهبه مذهب مفتيه ، وقوله أنا حنفي أو مالكي كقول الجاهل أنا نحوي لا يحصل له منه سوى مجرد الإسم فبأي العلماء اقتدى فهو ناج على أن الكلام وراء ذلك ، فقد نصوا على الجواز والوقوع بالفعل في تقليد المجتهد لغيره والكلام مبسوط في ذلك في كثير من كتب الفقه ، وقد حرر المبحث أبو السعود في شرح الأربعين حديثا النووية وألف في ذلك رسالة عبد الرحيم المكي فليراجعهما من أراد الوقوف على التفصيل ، فإن قيل : قد ذكرت أن الخنزير محرم وإن كان من طعامهم فلماذا لا يجعل مخصصا بالحلية أيضا بهاته الآية أي آية طعامهم [المائدة: ٥] وإذا جعلت آية تحريمه [المائدة : ٣](١) محكمة غير منسوخة فكذلك تكون (الْمُنْخَنِقَةُ) [المائدة ٣](٢)؟ ولماذا تقيسها على مسألة التسمية ولا تقيسها على مسألة الخنزير وأي مرجح لذلك؟
فالجواب : أن المأكولات منها ما حرم لعينه ومنها ما حرم لغيره ، فالخنزير وما شاكله من الحيوانات محرمة لعينها ولهذا تبقى على تحريمها في جميع أطوارها وحالاتها ، وأما متروك التسمية أو (ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٣](وَالْمُنْخَنِقَةُ) [المائدة : ٣] فإن التحريم أتى فيه لعارض ، وهو ذلك الفعل. ثم أتى نص آخر عام في كل طعام أهل الكتاب وأنه حلال فأخرج منه محرم العين ضرورة وبالاجماع أيضا وبقي المحرم لغيره ، وهو مسألتان أحديهما : مسألة التسمية ، والثانية : مسألة المنخنقة ، فبقيتا في محل الشك لتجاذب كل من نصي التحريم والإباحة لهما ، فوجدنا إحداهما : وهي مسألة التسمية وقع الخلاف فيها بين المجتهدين من الصحابة وغيرهم ، وذهب جمع عظيم منهم إلى الإباحة. وبقيت مسألة المنخنقة التي يتخذها أهل الكتاب طعاما لهم مسكوتا عنها فكان قياسها على مسألة
__________________
(١) قال الله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) [المائدة : ٣].
(٢) قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ) الآية.