وغيره من أنواع الغدر أو يحصل التنكيل بدون القتل كالتغريب والسجن مع أخذ المال كل ذلك باحتيالات صورية على ظاهر الأعين ليقال إنهم لم ينقضوا القوانين حتى لا تثور العامة ، وأما متولي أكبر حزب الأمة فهو البعض من الأعيان والكبراء وجمهور الأوساط والرعاع ، فأما الباعث لهذا الجمهور على ذلك فهو واضح لأنهم هم موضوع الإغتيال الواقع فيه المنافسة وقد كانوا علموا من السابق ما كانت عليه حالتهم ، ثم ما آلت إليه بعد تأسيس القوانين والإحتساب عليها.
وأما الباعث لبعض الأعيان والكبراء فربما أشكل مع ما قررناه في حق أغلبهم ، لكنه في الواقع بين وهو أن هذا القسم عاقل ينظر في العواقب ولا يستغني بالعاجل عن الأجل ، فعلم أن الزخرفات التي تحصل بالتسلط لا تدوم لأنها مآلها إلى انقراض الأمة وضعفها فتهجم عليها أمة أخرى قوية وتصير أولئك الأعيان كالسوقة كما قال تعالى : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل : ٣٤] وربما عاضد السوقة وهم الجمهور ذلك الهاجم للإستراحة مما هم فيه ، وأيضا فإن تلك الزخرفة التي يحصلونها أي الأعيان بتسلطهم مع قلة مدتها هي في نفس الأمر غير هنية لعدم الأمن معها وعدم الإطمئنان عليها لما أشرنا إليه من كونها موقوفة على رضاء شخص تتلاعب به أهواء حاشيته والمقربين إليه لمجرد أغراض شهوانية ، ويضحوا معها عرضة للأضحية متى ما أراد الملك فلا يأمن المقرب من طبيعة الملك المفسدة للأخلاق فربما غضب عنه مقربه اليوم لشيء كان يرضى به عنه بالأمس ، وأيضا لا يأمن دبيب سعايات أقرانه وحساده الغافلين عن كونها تجري عليهم مثلما جرت على صاحبهم ، كما قيل : «من حلقت لحية جار له فليسكب الماء على لحيته» ولهذا انضم القسم حتى عقلاء حاشية الملك والبعض من رجال الدولة إذ تيقنوا أنه لا خير لهم في نعيم لا أمن معه لا على الدم ولا العرض ولا المال ولا الحريم ولا الذرية فأي نعيم يحصل لهم وهم على شفا جرف هار ، وكان مقدام هذا الحزب رجلا من أعيان البيتوتات إسمه أوليفر كرومويل (١) ، ذا بسطة في المال والعقل والشجاعة وجرت حروب هائلة كشفت عن خلع الملك وحبسه ثم قتله بحكم مجلس على أنه خائن للأمة ، واستولى أوليفر رياسة الدولة بعد أن تلقب بجنرال ، وكان يوم دخوله بالعسكر منتصرا إلى لندره تلقاء الجم الغفير بالهناء والترحيب ، فقيل له : ألم تر هذا الاحتفال من العامة بك أيها المحامي من انكلاتيره؟ وجعل ذلك لقبه فقال : إن هؤلاء الرعاع لا يلتفت لا إلى تعظيمهم ولا إلى تحقيرهم فهم تبع للغالب إذ لو كان هذا اليوم أخرجت فيه إلى القتل لكانوا خرجوا إلى التفرج على مثلما
__________________
(١) هو أوليفر كرومويل (١٥٩٩ ـ ١٦٥٨) سياسي إنكليزي عضو في البرلمان. تزعم حركة المعارضة لسلطة الملك وبث روح الثورة وقاد رجالها فانتصر على جيش الملك شارلس الأول وحكم عليه بالإعدام سنة (١٦٤٩). أخضع إيرلندا وحلّ البرلمان وتولى الحكم بصورة ديكتاتورية (١٦٥٣). المصدر السابق (٥٨٨).