ويوظفون فيهم من قضاتهم ويغيرون عوائدهم وشرائعهم ، لما يلزم لذلك من مصاريف تكثير القوات وكمون الحقد في المستعبدين حتى ينتهزوا الفرصة لفك قيودهم متى ما سنحت الفرصة ، وبمثل هاته السياسة ومجاراة الأهالي في مقاصدهم وعاداتهم وأحكامهم وكبرائهم وديانتهم تيسر لها امتداد المستعمرات واتساعها وطول بقائها هانية بدون كثرة مصاريف ، فإن الهند الذي هو أعظم المستعمرات وفيه من السكان ما ينيف عن مائة وستين مليونا إنما تضبطه دولة الإنكليز بعشرين ألف عسكري إنكليزي فقط وإن كانت حكومة الهند لها نحو ثلاثمائة ألف من العساكر تحت السلاح لكنهم كلهم من الأهالي ما عدا العشرين ألفا المذكورة ، وذلك ما خلا ما للملوك والأمراء المستقلين بالإدارة في الهند من العساكر والقوات ، وما ذاك إلا لمجاراة الأهالي بما لا ينفرهم مع إجراء العدل فيهم وإلزام أمرائهم وملوكهم بذلك وحريتهم في سائر أطوارهم ، حتى أنها تعظم لهم شعائرهم الدينية كما يعظمونها في أنفسهم ، فالمسلمون مثلا تطلق لهم المدافع في أعيادهم وتعفيهم من الأشغال في المواسم وتعزف الموسيقى العسكرية في أعيادهم ، وكذلك تفعل مع المجوس وتصرف على الجميع أموالا باهظة في المعابد وأهل الديانة من دخل الهند ، وفي عيد إلقاء جوز الكوكو في نهر الهند يحضر أهل الأمر والحكم من الانكليز ويأخذون ذلك الجوز من أيدي الكهنة ويلقونه في النهر مجاراة للأهالي.
(وحينئذ) تنشر الرايات وتطلق المدافع من الأبراج والسفن هذا فالبلاد التي تحت إدارتها بتا فضلا عن البلاد المستقلة بالإدارة فالأهالي يوازنون بينما فاتهم من حالة الاستقلال وما هم عليه من المنافع التي لم تكن حاصلة إليهم مع موازنة المشقات والأهوال الحاصلة من إعلان الثورة ، لأن الإنكليز أيضا قساة وقلوبهم فظة غليظة عند الثورة يجازون بالفظائع التي تقشعر منها جلود السامعين ، ويقول القائل : أين التمدن ورحمة الإنسانية والشفقة التي تمتلىء صحفهم بالتنويه بها؟ وما هي إلّا سواد على بياض يأمرون بها غيرهم ولا يرون منها شيئا ، سيما بما يستعملونه من الغدر بإغراء أقسام الأهالي للانقسام وبذل الأموال العظيمة في ذلك فإذا حصل الانقسام وقع الانتقام من الكل على التدريج وربما يحصل من بعض الأقسام لبعض أشدّ مما يحصل من نفس الإنكليز ، فلذلك آثرت أهالي المستعمرات السكون والرضى بما هو عليه مستغنمي ثمرة ذلك بقدر الإمكان بل أن بعضهم مكنتهم دولة الانكليز من الاستقلال وأعلنت لهم بذلك ورفضوا هم قبوله خوفا من تسلط غيرها عليهم لضعفهم ، وربما يعاملهم المتسلط بما لم يعاملهم به الإنكليزيون مثل ما وقع في جهة من أستراليا منذ نحو من خمس سنين ومع ما مر فقل ما يخلو وقت عن حدوث ثورة في إحدى الجهات من المستعمرات المذكورة وفي الأغلب بعد حصول الراحة بالقوّة أو باللين وهو الأغلب تزيح الدولة البواعث على الثورة حتى تعود المصافاة مع الأهالي على وجه كأنه راسخ وإنما قلنا أن اللين هو الأغلب لأنا رأيناها لا تستعمل القوّة لأبعد انفلال حدود اللين ، حتى إنها في نفس حروبها مع الثائرين لا توجه عليهم قوّة كبيرة من أول وهلة بل