وقد تقدم أن عدد السكان نحو إثنين وثلاثين مليونا وديانتهم الغالبة برتيستانت وقليل من الكاتوليك ثم اليهود ثم الدهرية ثم الموحدين ، أي الذين يوحدون الله ويعترفون بالرسالة والعبودية والبشرية لعيسى ويصدقون بالكتب فهم أقرب إلى الإسلام ولا زال يكثر عددهم سيما في ألمانيا وأماريكا ، كما يوجد النادر من المسلمين ، ثم أن عوائد الأهالي لا يمكن إطلاقها على الجميع سواء بل بين طبقاتهم البون البعيد فهم على خمسة أصناف.
الأولى : العلية ولهم امتيازات تقدم بعضها في السياسة ومن خاصيتهم أن لا يدخلوا في الأعمال البدنية التي تجب على العموم ويتنزهون عن مخالطة غيرهم بحيث يكون كل منهم في داره عنده سائر ما يحتاج إليه ولا يحتاج في الخارج إلا لمجرد المشي في الطريق لمكان نزهته أو لصاحبه الذي هو من نوعه وعلى نحوهم نساؤهم ، وهؤلاء هم أصحاب لقب اللورد وغيره من ألقاب الشرف كالمركيز والسير وغيره من الألقاب الوراثية ، والتي يعطيها الملك بموافقة مجلسه الخاص ، ومثل هؤلاء الأمراء والوزراء وأصحاب المناصب السامية والأساقفة الكبار.
الثانية : هم الأعيان الذين لهم أملاك تغنيهم عن معاطاة شغل أو حرفة مع تنعم العيش والرفاهية والإسراف لكنهم ليس لهم لقب مثل الأولى.
الثالثة : العلماء والمتشرعون والقسوس والتجار الكبار.
الرابعة : التجار وأصحاب العمل النبيه مثل الكتبة.
الخامسة : بقية الناس المتعيشين من كد أبدانهم.
فالأولى والأخيرة بينهما التباين والثلاثة الباقية لكل منها جهة تناسب بها من فوقها وجهة تناسب بها من تحتها ، ويمكن على حسب التقريب أن يقال أن الثلاثة الوسطى في عادتهم وأطوارهم على نحو ما تقدم في فرنسا وإيطاليا ، وأما الطبقة العليا فليس لها مثيل في تينك المملكتين ، ومحصل حالهم أنهم على نوع من صفات ملوك الإستبداد في العظمة والكبرياء والفخر والمباهاة باللعب واللهو والتكاثر في الأموال والأولاد والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث (١) ، فترى للواحد من ملك الأرض مسيرة يوم للراجل ويملك الفرس بأربعمائة ألف فرنك ويعد دخله بالدقيقة فيكون له في الدقيقة ألف ليرة أو ليرة أو نحو ذلك ، ويفرش بيته بصنائع أهل المشرق والمغرب والمنسوجات التي قيمة ذراعها بخمسمائة فرنك ونحوها إلى غير ذلك من الأطوار التي لا [ينعم] بها إلا هو وعائلته أو من كان من طبقته وبينهم مودة أو من يتفضلون عليه بالمعرفة ، وهي إنما تحصل للغريب إذا كانت له وصاية من أحد قرابة أولئك العلية قد تعرف به في
__________________
(١) أخذه من قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران : ١٤].