وأمصار يسلك من بعضها لبعض في القوارب ، وفي الخريف الذي يتبدىء فيه في غيرها ذبول النبات تكون هي قد شب نباتها وازدخرفت وربت ، وفي الشتاء تنتشر أزهارها وتغرد أطيارها ويحصد زرعها وتدخر أقواتها وتفيض على العالم محصولاتها فانفردت بذلك عن غيرها.
وليس هناك ما يشبهها إلا نهر السند المار على بلوجستان ، فإنه يقرب من ذلك من حيث فيضانه في الصيف ، ولما أحدثت الآلات البخارية لرفع الماء من النيل زمن نزوله قل ضرره من القحط ، إذ لم يعهد أنه جف ماؤه إلا سنة ١٢٧٨ ه وكان كربها شديدا.
أما ضرر تفاقم فيضانه فقد أعان على تخفيفه الأخبار بالأسلاك الكهربائية حيث يأتي الخبر بتفاقمه سريعا من السودان ومصر العليا ، فتفتح له أفواه الخلجان وترتفع الناس عن الأراضي المنخفضة ومع ذلك يحصل منه ضرر عظيم أحيانا ، وقد اختلفت الأقوال في أسباب فيضانه وأظهرها أنه متركب من شيئين.
أحدهما : ذوبان الثلج المتراكم على جبال الحبشة الشاهقة ، وعلى جبال أواسط أفريقية بحرّ أواخر الربيع ، فتسيل مياهها ويطموا بها النهر الأزرق وغيره ، ولطول امتداد الأنهر ما يصل ماؤها إلى مصر إلا في الإنقلاب الصيفي.
وثانيهما : أن جنوب خط الإستواء فصوله على عكس فصول شماله ، فالربيع عندنا هو الخريف عندهم ، والصيف عندنا هو الشتاء عندهم ، وقد علمنا أن النهر الأبيض منبعث من جنوب خط الإستواء بعدة درجات وأن الأمطار في الأقاليم الحارة تتراكم دفعية سيما وقت الخريف ، والخريف في الجنوب هو ربيع في الشمال فما يصل ماؤه إلا في الصيف في الشمال ، فيحدث من ذلك طمو النهر الأبيض أيضا ويلتقي بأخيه وهما طاميان ، فيحدث فيضان النيل زمن الصيف في مصر.
أما بقية الأنهر في ممالك مصر ففي النوبة والسودان كثير من الأنهار والجداول منها ما يصب في النيل ومنها ما يجف في الصحارى وليس منها ما يهم سوى النهر الأبيض والأزرق المتقدمي الذكر ، وفي أرض مصر من صعيدها إلى بحريها لا يوجد نهر أصلي سوى النيل ، لكن أحدثت منه أنهار عديدة عظيمة تسمى بالترع حتى صارت أغلب الأراضي المصرية مخترقة بتلك الأنهر الصناعية ، ومنها الكبير الذي يحمل السفن النهرية ومنها الصغير ومنها الدائم الإمتلاء بالمياه ومنها ما يجف عند انتهاء إنخفاض النيل ، والموجود الآن من هاته الترع يزيد عن الستمائة وأحد عشر نهرا أطولها الإبراهيمية فإنها تقرب من مائتي ميل ، ولا زال الإعتناء بتكثير الترع المستلزم لتكثير أراضي الزراعة حتى بلغت الآن إلى ما يقرب من خمسة ملايين فدانا مسقية مزروعة ، والفدان عبارة عن مساحة ٥٩٢٩ ميترو مربع وهذا المقدار وإن كان كثيرا في ذاته لكنه لم يبلغ إلى ما كانت عليه الترع في مصر قديما ، حيث كانت زمن الفراعنة تصعد مياه النيل إلى أعالي رباها وجبالها وتسقى