وزير الحرب فعزل ، وحصلت حينئذ طنطنة لاتحاد العساكر وإنصافهم وحياة المصريين ، ونشأ في الأمة حزب يسمى الحزب الوطني زعيمه في الكلام رجل يسمى عبد الله نديم (١) فصيح اللسان عارف بطرق الكلام ، وكثرت منه الخطب في المجامع والمواكب ومن غيره أيضا في الحث على الإتحاد وأخذ الأشغال لأبناء الوطن ، وكذلك الوظائف والخروج من وطأة الأجانب الذين اشتدّ احتقارهم للأهالي واستبدادهم عليهم بالمرتبات الباهظة ، حتى أني لما مررت بمصر كنت أسمع دوي غليان الأهالي من التشكي من كثرة توظيف الأجانب الذين بلغ عددهم نحو ألف ومائتي متوظف يأخذون سنويا نحو أحد عشر مليونا فرنكا مع اقتدار الأهالي على الوفاء بتلك الوظائف ونقصان مرتبهم عن ذلك بكثير.
ثم بدا للوزارة لزوم التنقيص من عدد العساكر فثار الجند وأحدقوا بقصر الخديوي متسلحين حتى بالمدافع بعد أن أرسلوا إلى نواب الدول بالأمن عليهم وعلى رعاياهم والإعلام بمقاصدهم ، وكان رئيس ذلك الإتحاد رجل من أهل مصر في رتبة أمير ألاي فصيح اللسان ثبت الجنان إسمه أحمد عرابي (٢) ، فطلب هو ورؤساء الجيش الاجتماع بالخديوي فلما تيقن الخديوي جد طلبهم بواسطة خطاب قنسل الإنكليز معهم ، تلقاهم فأعلموه بأن مطلبهم هو عزل الوزارة وولاية رئاستها لشريف باشا وجمع مجلس النوّاب وإجراء قراره حقيقة وأن تكون له الحرية اللازمة لمثله وأنه لا يمس حقوق الأجانب وتعهدات الحكومة معهم ، فلم يسع الحال إلا لقبول جميع المطالب وإجرائها فعلا ، وازداد عرابي نفوذا وانطلقت الألسن بالحرية فلما اجتمع مجلس النوّاب ألف قانونه الذي تبتني عليه أعماله وكان من جملته أنه له الحق في الإطلاع على حساب الحكومة في الحال وله الرأي فيه ، مع أن ذلك من خواص مأمورية المراقبة الفرنساوية الإنكليزية ، فامتنعت وزارة شريف باشا من قبول ذلك لما تعلم من تداخل الدولتين في الامتناع حتى يفضي إلى التداخل في السياسة فأصر المجلس على طلبه وأظهرت العساكر التعصب إلى المجلس فاستعفى شريف ووزارته ومن هنا خرجت الأعمال من القصد الجميل لما يوقعها في الزوال لأن العاقل ينظر لجميع مقتضيات الحال ونسبة قوة الدول فيتباعد عن موجبات الفساد ولا
__________________
(١) هو عبد الله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسي الحسني (١٢٦١ ـ ١٣١٤ ه) صحافي خطيب ، من أدباء مصر وشعرائها. يتصل نسبه بالحسن السبط ولد في الإسكندرية. كتب مقالات كثيرة. ثم أصدر جريدة «التنكيت والتبكيت» مدة ، نفاه الإنكليز مرتين وفي المرة الثانية خرج إلى يافا ثم إلى الأستانة فاستخدم في ديوان المعارف ثم مفتشا للمطبوعات في «الباب العالي» واستمر إلى أن توفي فيها. الأعلام ٤ / ١٣٧ ونزهة الألبا (١٧٩).
(٢) هو أحمد عرابي بن محمد عرابي بن محمد وافي بن محمد غنيم (١٢٥٧ ـ ١٣٢٩ ه). زعيم مصري ممن تركت لهم الحوادث ذكرا في تاريخ مصر الحديث. ولد في قرية من قرى الزقازيق بمصر. تولى مناصب عدة ثم نفاه الإنكليز إلى جزيرة سيلان حيث مكث ١٩ عاما. وأطلق في أيام الخديوي عباس سنة (١٣١٩) فعاد إلى مصر وتوفي بالقاهرة. الأعلام ١ / ١٦٨ والمقتطف ٣٩ / ٤١٧.