تطلب النهايات في البدايات ، كما هو القاعدة الشهيرة القائلة : «من طلب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه» وما بالعهد من قدم قد رأوا تداخل الدولتين في عزل الخديوي السابق حتى تم مرادهم فكيف يفتح لهم باب التداخل وهم بالمرصاد منهم ، لكن سبق القدر فلم يتدبروا واستعجلوا فأصروا على طلبهم ففوض الخديوي انتخاب الوزارة إلى المجلس مع أنه من حقوقه تطييبا لخاطر الأهالي ، فاستولى رئاسة الوزارة محمود سامي (١) واستولى وزارة الحرب عرابي وابتدء أيضا من هنا الإعتراض عليه من العقلاء في قبول الوزارة ، لأن مقامه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحجب بتلك الولاية ويصير له غرض خاص به من الإرتقاء إلى المناصب العالية ، سيما بعد أن رقي من كان معه من رؤساء العساكر إلى رتبة اللواء وقبل هو من الخديوي تلك الرتبة بعد الإلحاح عليه ، فوافقت هاته الوزارة رأي المجلس وكانت إذ ذاك ألسن الأهالي وصحفهم بذية مطلقة بالقدح في الأوروباويين والتبجح بما هم عليه مما أسف منه عقلاء المسلمين ، فهاجت ضدهم صحف أوروبا جميعا وأشدهم الفرنساويون والإنكليزيون حتى أبرقت وأرعدت دولتاهم متهددين بالحرب طالبين نفي عرابي وبعضا من رؤساء العسكر الذين رقوا إلى رتبة اللواء وإرجاع وزارة شريف ودحض مطلب مجلس النواب في التداخل في أمر المراقبة ، فوقع اضطراب وهيجان ظهرت فيه دعوى على بعض من العساكر الجراكسة بأنهم قصدوا قتل عرابي بإغراآت سرية منها المنسوب إلى طلعت باشا أحد علائق إسماعيل باشا ، فنفي أولئك الجراكسة إلى الآستانة وبقوا فيها تحت الحفظ مكرمين في أحد البناآت السلطانية إلى أن رجعوا بعد الحرب الآتي ذكرها ، فلما أصرت الدولتان على ذلك أعلن الخديوي بعزل الوزارة فثارت الأهالي والعساكر وألزموا الخديوي بإرجاع عرابي إلى وزارته ، وقدم إذ ذاك مرخص عثماني وهو المشير درويش باشا ومعه عدة رجال لإقرار الراحة في مصر بالوجه السياسي ، لأن الأهالي أيضا أكثروا من التنويه بانتمائهم للدولة العثمانية ووردت منها أفراد على الوجه الخصوصي من قبل لإراحة الأهالي ، وكان الخلاف بين عرابي والخديوي عند قدوم درويش باشا مشتدا حتى ظهر الخبر بأن الأهالي قدموا مضبطة بطلب عزل الخديوي بل جرى الطمع حتى إلى إخراج الخديوية عن عائلة محمد علي بالمرة ، وطلب أن تكون مصر مثل البلغار في امتيازاتها التي منها اختيار الوالي وأن لا تتداخل فيهم الدولة العثمانية بشيء في إدارتهم ، بل ربما تحرشت صحفهم بأنها لو ترسل عساكر ضدهم فإنهم يقاتلونهم كما يقاتلون سائر الدول ، وحينئذ أعلنت كل من فرنسا وإنكلاتيره بلزوم إبقاء الخديوي ونفوذه وقطع مضادته
__________________
(١) هو محمود سامي «باشا» ابن حسن حسني بن عبد الله البارودي المصري (١٢٥٥ ـ ١٣٢٢ ه). من الناهضين بالشعر العربي في عصرنا. وأحد القادة. جركسي الأصل. تعلم بالمدرسة الحربية بالقاهرة تقلب في مناصب انتهت به إلى رئاسة النظار. واستقال ولما قامت «الثورة العرابية» كان في صفوف الثائرين. نفاه الإنكليز إلى جزيرة سيلان وعفي عنه سنة (١٣١٧ ه) فعاد إلى مصر : وتوفي بالقاهرة. الأعلام ٧ / ١٧١.