وهو عبادة مركبة من أعمال بدنية وأعمال مالية ، ويمكن أن يكون مشتملا أيضا على حكمة أخرى مرعية في نظر الشارع وهي أحكام الوصلة بين قبائل المسلمين وتعرفهم ببعضهم واطلاع كل منهم على حاجات أخيه وعوائده ليعين كل منهم أخاه في الحضرة والغيبة بما يستطيع حسبما أمره الشارع بذلك ، وينتج منه مزيد المواصلات بين الأمم والشعوب والقبائل من مشارق الأرض ومغاربها كما هو الأمر الواجب شرعا في جعل المؤمنين عصابة واحدة ، وقد مثلهم الشارع بالبنيان يشد بعضهم بعضا ، ومثلهم بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد ، وجعلهم إخوة لرحم الدين الواحد إلى غير ذلك من النصوص الدالة على التحامهم ووحدتهم مما لا يمكن إيجاده بدون تعرف ، فجعل لهم في كل سنة موعدا يجتمعون فيه ليحصل ذلك القصد.
وفيما تضمنته مناسك الحج إيماء إلى ذلك حتى يحصل على أكمل وجه فإنه عين لهم المحل الذي يجتمعون فيه بصورة لا يحصل معها نكد من بعضهم على بعض في التفضيل كما لو كان الاجتماع في بلد قبيلة أو جهة دنيوية ، بل جعل ذلك المحل هو خاص وخالص النسبة للخالق جل وعلا وحده ، ثم عند زيارة نبيه الذي هو واسطتهم إلى خالقهم فلا يحصل من قصد ذلك المحل أدنى امتياز يغير القلوب ، ثم أنه أوجب عند أول القدوم إلى ذلك المحل الإحرام الذي هو من جملة ما تضمنه ترك لبس المخيط وغيره من سمات الرفاهية التي يحصل فيها التحاسد بحيث يكون الناس كلهم سواء لا فضل لملك على راع ولا لعالم على جاهل ، وأوجب على من اضطر إلى ترك ذلك أن يزيد في الإحسان والصدقة الجالبة لقلوب الفقراء الذين هم مظنة إنكسار القلوب مما يرونه من الرفاهية فيعوض ذلك بزيادة صلتهم والإحسان إليهم والإحسان يجلب القلوب فتنعدل الحال ، وكذلك شرع مزيد النفقات والإحسان على حسب رتبها واستطاعة المنفق لكي يزيد التوادد ثم قصر ذلك الإحرام على مدة مخصوصة هي مظنة حصول التعرف واستقرار التوادد بين الأفراد ، فإذا حصل التوادد وتأكد بالصلات يبعد زواله لمجرد رؤية أثر النعمة على المنعم عليه ولذلك أباح اللبس حينئذ ، وكذلك شدد النهي والنكير على الجدال في الحج الموجب للتباعد الذي هو نقيض المقصود ، كما شدد مثل ذلك في الفسوق الذي هو موجب لاستنقاص العبد بمعصية خالقه فيقول أخوه إذا كان هذا لم يراع حق الخالق في بلده الأمين فكيف يراعي حق أخوتي بالغيب ، وكذلك منع التمتع بالنساء لكي لا ينصرف الفكر هناك إلا لطاعة الخالق وحده.
ومن طاعته ما أشرنا إليه من إحكام الوصلة مع إخوانه المؤمنين ، وهذا الأمر وهو كون الحج مشتملا على حكمة الوصلة بين الأمم قد أشار إليه بعض المتأخرين تبعا لبعض المتقدمين في التحريض على مزيد المواصلة بين الأمة ، وقالوا : إن أهل المحلة الواحدة أكد عليهم الشارع زيادة عما يلزم في حق الجوار أمرا تضمنته عبادة الخالق وهو اجتماعهم خمس مرات في اليوم بمسجد محلتهم للصلوات الخمس ، فيجتمع الأعلى والأدنى في