وأما مدن الحجاز فأصل قاعدته وقاعدة عموم الإسلام هي المدينة المنورة وكانت مدة إقامة الخلافة بها اتسعت وكبرت وكذلك بعد ذلك في العصور الأولى من الإسلام وإن حدث فيها الخراب الكلي والجلاء العام مدة يزيد ، ثم دون ذلك مدة القرامطة (١) ، ثم تراجع عمرانها إلى النمو ثم عادت إلى ما هي عليه الآن مما ذكرناه في صفتها ، وقاعدة الحكومة الحجازية الآن هي مكة المشرفة وقد مر ذكر صفتها ومن اعتبر ما جرى عليه الحال في ظهور الإسلام يرى أن عناية الله بالمدينة عظيمة وقد جعلها مظهرا للدين القويم وانتصارا لرسوله الأمين عليه الصلاة والسلام ، وكانت مكة تابعة في الحكم للمدينة حتى بعد فتح مكة ، وقد خالج الأنصار عند الفتح انتقال النبي صلىاللهعليهوسلم إلى بلده الأصلي «فأعلمهم بأنه لا يفارقهم واستقر هو ومن بعده من الخلفاء الراشدين بالمدينة إلى خلافة سيدنا علي فكان صدرها بالمدينة وآخرها بالكوفة ، ومع ذلك فقاعدة حكم الحجاز هي المدينة وذلك هو الموافق لحالة السياسة لتوغل المدينة من القارة ، وإذا كان الحاكم في مكان تمهدت سائر السبل إليه ، وعلى تقدير حدوث بعض العوائق في الطرق يزال عن عجل وتنفذ الأحكام في الأطراف لاستقرار القوة في الوسط ، وليست مكة المشرفة على ذلك النمط وقد تغير الحال مرارا مدة الإسلام في قاعدة الحكم بالحجاز فكان الأمر على ما ذكرناه من كون المدينة هي القاعدة ، ثم انفردت مكة بحكمها وبقيت المدينة مستقلة ثم صارت الأحوال تتقلب فتارة تكون مكة تابعة وتارة متبوعة وتارة يستقل كل منهما بحكم ولو بعد استقرار الدولة العثمانية ، والذي عليه العمل الآن هو أن مكة هي القاعدة وللمدينة حاكم يرجع في أمره إلى حكومة مكة ، وأما بقية المدن بالحجاز فليست بموجودة وإنما الموجود عبارة عن قرى مثل الطائف وهي أكبرها ، والصفرا والجديدة وحده ورابغ وخيبر ، وقد غلط كثير من الجغرافيين حتى من المسلمين في ذكرهم لسكان هاته البلدة وكونهم يهود اغترارا بما كان في أصلهم وغفلة عما وقع في خلافة سيدنا عمر رضياللهعنه من جلاء جميع الأديان إلا الإسلام عن جزيرة العرب مستندا للنص من الشارع في كونه لا يجتمع بها دينان ، ومنذ ذلك التاريخ لم يبق بها إلا المسلمون ، وسكانها الآن من ضعفاء القبائل مسلمون وهم تبع لحكم المدينة صورة وفي الحقيقة تحت حكم محمد بن رشيد النجدي ، أكبر حكام قبائل نجد بل هو الحاكم على جميع أواسط قارة
__________________
(١) القرامطة : هي حركة سياسية اجتماعية دينية لا تزال حقيقتها على كثير من الغموض لانقراض اتباعها تنسب إلى داعيها الأول حمدان قرمط في الطرق أظهرها قوية في البحرين أبو سعيد الجنابي (٢٨٥ ه) ثم سيطرت على كثير من البلاد واستولوا على مكة سنة (٩٣٠ م) ونقلوا منها الحجر الأسود ثم ردوه بعد اثنتين وعشرين سنة. انتزعوا دمشق من أيدي الفاطميين (٩٧٠ م) وزحفوا إليهم في مصر فهزمهم المعز الفاطمي (٩٧٢ م) انتهى أمر القرامطة على أيدي الأمراء العيونيين في البحرين (١٠٢٧ م) انظر المنتظم ١٢ / ٢٨٧ وما بعدها.